الدوام الليلي في رمضان: كيف تحافظ على الطاقة وتوازن بين الروحانية والإنتاجية؟
يمثل العمل الليلي في رمضان اختبارًا للذكاء الروحي، بقدر ما يعد اختبارًا جسديًا، فالذين يعملون ليلاً يواجهون الكثير من الضغوطات بسبب التناقض الكبير بين توقعات المجتمع وبين واقعهم.
ولعل الفكرة الشائعة هي أن العمل الليلي "أسهل"، لأن العامل غير صائم، وهي الفكرة التي تهمل تحديات جسدية ونفسية عدة يواجهها العاملون ليلاً، الذين يشعرون بأن عليهم إثبات شيء ما، بحكم أنهم يتنعمون بامتيازات خلال رمضان!
ومن بين التحديات العديدة يبرز التحدي الأكبر، وهو الصراع بين الرغبة في التقرب إلى الله بالعبادات، وبين الالتزامات المهنية والعملية.
الدوام الليلي في رمضان: تحديات وحلول عملية

هناك اعتقاد شائع وخاطئ، بأن العمل في النوبات الليلية خلال شهر رمضان أسهل بكثير من العمل خلال ساعات النهار، بحكم أن الشخص لا يصوم خلال ساعات العمل، ولكن الواقع هو أن هؤلاء يواجهون تحديات عديدة جداً.
صحيح أن بإمكانهم الأكل والشرب خلال ساعات عملهم، إلا أن هذه الميزة البسيطة، تأتي مع مجموعة من التعقيدات التي يعيشها العاملون ليلاً، فكما هو معروف فإن للدوام الليلي مشكلاته النفسية والجسدية والاجتماعية وأحياناً المهنية، وحدة هذه المشكلات تتضاعف خلال شهر رمضان بسبب طبيعة الشهر وخصوصيته الدينية والاجتماعية.
الدوام الليلي في عالمنا العربي غالباً ما يبدأ من الحادية عشرة مساءً، حتى السادسة صباحاً، وقد يختلف بساعة أو ساعتين بين دولة وأخرى، وهذا هو الوضع النظري وفقاً للقوانين، ولكن من الناحية العملية فإن ساعات العمل تختلف وفق القطاعات، فمثلاً يعمل العاملون في القطاع الصحي بنظام 12 ساعة لكل نوبة عمل تبدأ من الثامنة مساءً وتنتهي في الثامنة صباحاً، والأمر نفسه ينطبق على القطاعات الصناعية، وان كانت تبدأ عند الساعة السادسة. وبشكل عام فإن ساعات العمل خلال رمضان يتم خفضها إلى خمس ساعات أو ست ساعات حسب الدولة.
وبغض النظر عن موعد بدء النوبة الليلية وانتهائها، فما هو مؤكد هو أن الدوام الليلي يحرم العاملين من أن يكونوا جزءاً من الأجواء الرمضانية العائلية والاجتماعية والروحية، فيما قد تحول التحديات المتعلقة بساعات النوم والتغذية والترطيب والتعامل مع العزلة الاجتماعية والروحية، شهر رمضان إلى فترة صعبة للغاية.
اضطراب الإيقاع اليومي والروتين الروحاني

يواجه العاملون ليلاً خلال رمضان تحدياً يكمن في التوفيق بين جدول نومهم وروحانيات الشهر، ففيما يجتمع الأهل والأصدقاء حول مائدة الإفطار أو في صلاة التروايح أو في جلسة عائلية بعد الإفطار، يجد العامل الليلي نفسه منعزلاً في مكان عمله، مما يجعله يفوت التجارب الجماعية التي تمنح رمضان طابعه الخاص، وهذه العزلة توثر عليه بشكل سلبي نفسياً وجسدياً.
بطبيعة الحال، فإن الذين يعملون ليلاً، كما هو الحال مع العاملين خلال ساعات النهار، يملكون روتينهم الخاص الذي يتبعونه، والذي ينقلب رأساً على عقب خلال شهر رمضان، ونتيجة لذلك، يصبح النوم نفسه معركة يومية، خصوصاً حين تقسم الساعات بين فترات قصيرة قبل أو بعد الإفطار أو قبل وبعد السحور، مما يؤثر على جودة النوم، المنخفضة أصلاً بحكم أن العامل ينام نهاراً ويعمل ليلاً.
وبشكل عام ينبغي الحصول على 7 ساعات من النوم قبل بدء النوبة الليلية، ويجب تقسيمها على فترات مختلفة تسمح للجسد بالراحة، وفي حال كانت النوبة الليلية تبدأ عند العاشرة أو الثامنة، ينصح بالنوم بعد الإفطار لساعتين أو ثلاث.
وفي حال لم يكن هذا الخيار ممكناً، فنظام القيلولة هو الحل الأمثل، بحيث يتم أخذ قيلولة قبل ساعات من بدء النوبة، أما مدة هذه القيلولة فتختلف من شخص إلى آخر، فالبعض يشعر بالخمول بسبب القيلولة الطويلة (60 دقيقة) ويفضلون الأقصر مدة (20 دقيقة) والعكس صحيح، لذلك يعتمد تحديد مدة القيلولة على ما يناسب كل شخص.
كذلك يمكنك محاولة النوم قبل السحور، إذا كان ذلك ممكناً، لمدة ساعة أو نصف ساعة وذلك للتمكن من أداء الواجبات الدينية فجراً، فيما يجب أن تكون ساعات النوم خلال النهار مماثلة لساعة النوم المعتادة، مع الحرص على تحسين بيئة النوم، من خلال استخدام الستائر المعتمة أو قناعات العيون.
معضلة التغذية والترطيب

ما يحسد عليه العامل ليلاً، وهو قدرته على تناول الطعام والشراب، يعد في الواقع معضلة حقيقية، فالصائم في حال كان يفطر خلال دوام عمله، عليه حصر وجباته بين الإفطار والسحور، ما يدفعه إلى الإفراط في الأكل أو اختيار الأطعمة غير الصحية كالأطعمة المقلية، وذلك للحصول على الطاقة السريعة.
أما الذين يفطرون قبل الدوام، والذين قد يتمكنون من تناول وجبة إفطار في المنزل، فقد يقومون بالنقيض ويتناولون كميات قليلة خوفاً من شعورهم بالتخمة، وبالتالي الخمول وعدم قدرتهم على القيام بمهامهم، ما يجعلهم يشعرون بالجوع لاحقاً، واللجوء لأطعمة الطاقة السريعة خلال ساعات العمل.
الحل في الواقع بسيط للغاية، وهو التخطيط المنطقي والعملي لوجبات الطعام، بحيث تحتوي وجبة الإفطار على الخضراوات والبروتينات الخفيفة التي توفر الطاقة، مع الحرص على تناول الكثير من الماء والعصائر خلال الدوام، وتناول وجبات خفيفة كالمكسرات والفواكه لتجنب الإفراط في تناول السكريات أو الكافيين.
أما وجبة السحور فيجب أن تحتوي على أطعمة بطيئة الهضم كالشوفان والبيض، وذلك لتوفير الطاقة اللازمة لإنهاء الدوام أو للقيام بطقوس العبادة في حال كان الدوام ينتهي فجراً.
العزلة الاجتماعية والروحية

الشعور بالعزلة من التحديات الكبيرة خلال شهر رمضان، ففي الوقت الذي تمتلئ فيه الشوارع بالناس، وينشغل الجميع بعيش أجواء رمضان وبالزيارات العائلية، يكون العامل الليلي في مكان عمله، يختبر مشاعر سلبية نابعة من كونه يفوت جوهر الشهر الكريم، حتى الصلوات اليومية تصبح تحدياً، خصوصاً إذا تزامنت أوقاتها مع ذروة العمل، ما يضطره إلى تأخيرها، وهذا ما يجعله يشعر بالتقصير.
حل هذه العزلة يتطلب إبداعاً ومرونة وتقبلا للواقع، فاختبار شهر رمضان بالكامل غير ممكن، وبالتالي يجب القبول بما هو متاح، مثلاً، يمكن اختبار الحياة الاجتماعية عن بعد، من خلال مكالمات فيديو مع أفراد العائلة لفترة قصيرة، لمشاركتهم بنشاط ما يقومون به.
أما ممارسات العبادات المطلوبة فتتطلب تنظيماً دقيقاً، بحيث يتم التركيز على النوعية وليس الكمية، أي مثلاً قراءة القرآن اليومية، يمكن أن تكون قصيرة، وعلى فترات موزعة على مدار اليوم، المهم هو خلق طقوس قصيرة تشعر العامل بالارتباط برمضان، حتى وسط انشغالات العمل.
وطبعاً، يبقى الحل البديهي وهو التواصل مع المشرفين، ومحاولة تعديل ساعات الدوام أو تعديل ساعات الدوام لبضعة أيام، بحيث يمكنه الذهاب إلى المسجد فجراً مثلاً لكسر الإيقاع، واختبار الأجواء الرمضانية فعلياً.
اقرأ أيضًا: استراتيجيات مبتكرة لزيادة التفاعل في مكان العمل.. هكذا تزيد من إنتاجية شركتك
معدلات الإنتاجية: التحدي الخفي

يعتقد البعض أن العمل الليلي في رمضان، يؤدي إلى تراجع الإنتاجية بسبب التعب أو انخفاض مستويات التركيز، ولكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير، فالكفاءة والانتاجية خلال رمضان لا تعتمد على القدرة الجسدية فحسب، ولكن أيضاً على كيفية إدارة الوقت والطاقة، وعلى بيئة العمل نفسها.
وقد يلاحظ البعض تراجعاً في الأداء خلال الساعات الأولى بعد الإفطار بسبب امتلاء المعدة، أو خلال الفجر بسبب الإرهاق التراكمي، بينما قد يختبر البعض ذروة في الإنتاجية، بسبب هدوء المكاتب بشكل عام بعد ضجيج الدوام خلال ساعات النهار، وعليه فإن معدل الإنتاجية ليس ثابتاً، وبالتالي لا يمكن وضع خطة واحدة تنطبق على الجميع.
التخطيط الذكي للمهام هو الحل، بحيث يتم ترتيبها وفق معدلات النشاطات، فالمهام التي تتطلب طاقة وتركيزاً أكثر من غيرها، يجب القيام بها خلال الفترات التي يشعر فيها العامل بمعدلات أعلى من النشاط.
أيضاً يجب الحرص على أخذ فترات راحة قصيرة ومتكررة، وإستغلالها للقيام بنشاط بدني بسيط،. فاستراحة لمدة 10 أو 15 دقيقة كل ساعتين للتجول في أنحاء المكتب، وتناول أطعمة خفيفة كالمكسرات أو شرب الماء أو العصير كفيلة بتجديد الطاقة.
ويمكن أيضاً القيام بتعديلات بسيطة في مكان العمل، فإن كنت المسؤول عن فريق العمل، وفر إضاءة مناسبة ودرجات حرارة مريحة تعزز التركيز، وفي حال كنت موظفاً فحاول ترتيب مساحتك الخاصة، بحيث تكون منظمة، واجلب جهاز الإضاءة الخاصة بك لتعديل معدلات الضوء.
التحدي الروحي وأداء الطقوس الدينية

العامل الليلي يواجه صعوبة كبيرة في المواءمة بين وقت عمله ومواعيد الصلوات والعبادات الجماعية، كصلاة التراويح أو حضور الدروس الدينية، ففي الوقت الذي تقام فيه هذه العبادات يكون منشغلاً إما بتحضير نفسه للعمل، أو يكون متواجداً في مكان عمله، ما يجعله يشعر بأنه يفوت على نفسه الكثير، وبالتالي يفقد بركة الشهر الروحية.
ولحل هذه المعضلة، يجب اعتماد أساليب مرنة تحافظ على الجوهر الروحي، وتضمن ممارسة العبادات، وإن كانت في غير مواعيدها، فمثلاً يمكن أداء صلاة التراويح فردياً في المنزل أو خلال فترات الراحة الليلية، أما قراءة القرآن فيمكن استغلال فترات الراحة القصيرة في العمل لقراءة بضع آيات أو الاستماع إلى التسجيلات الصوتية خلال التنقل أو أداء المهام الروتينية.
حتى الدعاء يمكن أن يكون جزءاً من الروتين اليومي، بحيث يتم قراءة أدعية قصيرة في أثناء الانتقال بين المهام، أو الاستماع للأدعية خلال أداء المهام، والتطبيقات الدينية يمكنها المساعدة في التخطيط لممارسة الطقوس الدينية والعبادات، وفق الجدول الزمني الخاص بكل فرد، فالعبرة ليست في الكم بل في الاستمرارية والنية الصادقة.