كيف تدير "تروس" عقلك وتركيزك وتتحكم في "الموضع الأزرق"؟
تجلس بحالة من الشرود التام، تفكر بما عليك القيام به بعد العمل، فجأة يرن الهاتف فتخرج فورًا من حالة الشرود تلك، وتعود للتركيز على ما يحدث أمامك.
والآن ضع إصبعك على الجزء السفلي من مؤخرة جمجمتك، بحيث يكون إصبعك على مستوى الجزء العلوي من أذنيك. في هذه النقطة بالذات وفي تجويف مملوء بالسوائل في جذع دماغك، تقبع مجموعة صغيرة من الخلايا الملونة بلون اللازوردي تعرف بالموضع الأزرق، هذه الخلايا هي المسؤولة عن تركيزك ويقظتك.
ما هو الموضع الأزرق؟
"الموضع الأزرق Locus Coeruleus"، هو مجموعة صغيرة من الخلايا العصبية التي يبلغ طولها نحو 15 ملليمترًا، تقع في قاعدة الدماغ، وتُعد المركز الرئيس للتحكم في أنماط التفكير.
الموضع هذا غالبًا ما يلقب بـ"مفتاح التشغيل"، وذلك لأنه يلعب دورًا أساسيًّا ومحوريًّا في تنسيق ومعالجة المعلومات، وزيادة اليقظة والتركيز. ورغم معرفة العلماء بوجود هذا الموضوع منذ القرن الثامن عشر، غير أنهم لم يكتشفوا أسراره إلا مؤخرًا.
"الموضع الأزرق" هو المنتج الرئيس لمادة "النورأدرينالين" أو "النورإبينفرين"، التي يخزنها في حزم ملونة باللون الأزرق، ويرتبط نشاط "الموضع الأزرق" بشكل كبير باليقظة والاستجابة للمؤثرات المحيطة.
"تروس" الدماغ والانتقال من سرعة لأخرى!
الأبحاث أظهرت أن "الموضع الأزرق" يلعب دوراً أساسياً في تنسيق المعلومات، وبالتالي يطلق عليه تسمية "مفتاح التشغيل" للدماغ، رغم أن العلماء يعتبرونه أقرب إلى ناقل الحركة مع "التروس".
إذ يمكن لـ"الموضع الأزرق" ضبط سرعة الدماغ لتتناسب مع نوع العمل العقلي الذي نقوم به، فاستخدام الترس المناسب يعني الراحة والتركيز، والخاطئ يعني الشرود والإحباط.
وحتى وقت قريب لم يكن العلماء يعرفون الكثير عن طرق التحكم بهذه الانتقالات، ولكن كل هذا تبدل حين اكتشف العلماء بأن النقطة الزرقاء في الدماغ قد تكون قابلة للتدريب، وهذا يعني أنه من خلال استخدام التقنيات الصحيحة يمكن تغيير التروس للوصول إلى معدلات التركيز المطلوبة.
وانطلاقاً من هذه الاستعارة سنبدأ من وضعية التروس صفر، وهذه هي حال "الموضع الأزرق" عند النوم، حيث لا حركة باستثناء دفعات من النشاط التي لها علاقة بتخزين الذكريات طويلة الأمد، وهذا يعني أنه بعد إنجاز المهام يقوم الدماغ بتخزين المعلومات كي يصار إلى استخدامها لاحقاً.
بمجرد استيقاظنا ينتقل إلى التروس 1، وتمثل ذبذبات منخفضة من النشاط، حيث يسهل "النورأدرينالين" انتقال الدماغ إلى حالة الوعي، ولكنه ما زال يفتقد القدرة على التركيز، ومع زيادة مستويات "النورأدرينالين"، يصبح التواصل عبر مناطق الدماغ أسهل، وتستجيب الخلايا العصبية في القشرة الجبهية الأمامية.
المزيج هذا من النشاط المعتدل، ودفعات قصيرة المدى للناقل العصري، تنقلنا إلى التروس 2، وهذه السرعة تسمح للدماغ بمعالجة المعلومات بشكل أكثر كفاءة.
الوصول إلى السرعة 3 غير صحي، وذلك لأنها تعني كميات عالية من "النورأدرينالين"، التي تنشط مناطق الدماغ المرتبطة بمعالجة مشاعر اليقظة الشديدة المرتبطة بتعرضنا للخطر، و أحياناً يتم تفعيل هذه المنطقة من دون الخطر كنتيجة للضغوطات والتوترات، ما يجعل العقل يعلق في هذه السرعة، ويترجم ذلك على شكل توتر دائم.
اقرأ أيضًا| صدق أو لا تصدق.. النمل يتعرف على الخلايا السرطانية في جسم الإنسان
تدريب العقل وفق السرعة 2!
النشاط المعتدل، أي تروس 2، هي المفتاح للأداء الإدراكي ولزيادة الإبداع والتركيز وخلق حالة التدفق، وهي الحالة التي يجد الناس فيها أنفسهم منخرطين تماماً في أداء مهمة، بحيث ينسون مرور الوقت.
الانتقال من تروس 1 إلي 2، لا يساعد عل حفظ المزيد من المعلومات في الذاكرة قصيرة الأمد فحسب، وهي مقاربة أساسية لأي مهمة عقلية معقدة، بل يزيد فرصة "الإبداع المتقارب"، وهي تلك اللحظة التي نحل فيها مشكلة معقدة للغاية أو لحظة "البصيرة” كما تسمى، حين تخطر لكم فكرة "مفاجئة" من العدم تحل مشكلة معقدة.
ولأن الأمر مرتبط بعملية "ميكانيكية"، لذلك يمكن تدريب العقل للسير وفق "السرعة" الأمثل، من خلال مقاربات بعضها سهل جدًّا ومباشر، وبعضها قد يتطلب بعض المراقبة والتخطيط.
اقرأ أيضًا: هل تعاني صعوبة التركيز؟.. ربما تكون مصابًا باضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط
- خلق حالة تدفق وفق المهام
حالة التدفق التي تحدثنا عنها أعلاه تساعد على تنظيم الأفكار وتركيزها على مهمة محددة، وخلق مشاعر إيجابية مرتبطة بها، وهذا التدفق يحدث عندما يقوم الشخص بنشاط يمثل تحدياً كافياً بالنسبة إليه، وهذه الجزئية هامة إذ إنها تعني أنه باختيار المهمة بالصعوبة المناسبة سنتمكن من "التروس" العقلية، وتسخير قوة "الموضع الأزرق" لصالحنا، لذلك فإن نوعية المهام التي تحفز الدماغ على الدخول في حالة التدفق هامة جداً.
- اليقظة والتأمل
التأمل يساعد على تنظيم المشاعر، وبالتالي فإن "جهاز الاثارة"، الذي يعتبر "الموضع الأزرق" جزءاً منه يتأثر بذلك، ويمكن اعتبار التأمل كوسيلة لتدريب نظام الاثارة على البقاء ضمن إطار "سرعة" محددة، وعندما يكون للشخص تحكم أكبر خلال حياته اليومية، فحينها يمكن المحافظة على السرعة 2، ومنع العقل من الانزلاق إلى السرعة 3 الفوضوية.
- النشاط البدني
"الموضع الأزرق" له علاقة مباشرة بالجهاز العصبي الذاتي، الذي ينظم معدلات ضربات القلب والتنفس، وهذا يعني أن الحركة البدنية يمكنها أن تؤثر على تبديل "السرعات"، فالحركة الخفيفة مثل المشي السريع صباحاً، يمكنها أن تنقلكم من التروس 1 إلى التروس 2، وفي المقابل وفي حال كنتم عالقين في التروس 3، فإن النشاطات المهدئة كالتأمل أو اليوجا أو التنفس المنضبط تساعدكم للعودة إلى التروس 2.
- الاستماع للساعة البيولوجية
سر التحكم بـ"الموضع الأزرق" يكمن في الاستماع إلى الساعة البيولوجية الخاصة بك، والتخطيط للمهام والنشاطات وفق الاشارات التي ترسلها.
وكما ذكرنا عند الاستيقاظ نكون في التروس 1، وننتقل تدريجياً إلى 2، وهذه الفترة مثالية للمهام التي تتطلب مقاربات إبداعية، ومن الأفضل ترك المهام التي تتطلب معالجة مكثفة للمعلومات حتى وقت لاحق في الصباح، أي حين نكون "ثابتين" على السرعة 2، وخلال منتصف اليوم، العقل سينزلق مجدداً إلى تروس واحد ثم يعود إلى ٢ خلال فترة ما بعد الظهر.
- استراتيجية إدارة المهام
المهام الرتيبة أو المملة تدفع بالعقل من تروس 2 إلى 1، بحيث نفقد التركيز، ونبدأ بأحلام اليقظة، ولمنعها من تحقيق ذلك، يجب زيادة "الحمل العقلي"، من خلال القيام بمهام أخرى "توازن" مستوى الانخراط، أي القيام بما يشبه تعدد المهام، كي نحافظ على وضعية التروس 2، فالاستماع للموسيقى من الخيارات المفيدة التي تبقى العقل منخرطاً حين يبدأ بالانزلاق للخلف بسبب المهام المملة.
والعكس هو الصحيح، فإن القيام بالمهام الصعبة لوقت طويل من شأنها أن تعيدنا إلى الخلف أيضاً، فالدماغ لا يمكنه قضاء الكثير من الوقت ضمن السرعة 2 قبل البدء بالشعور بالتعب، ولهذا السبب فإن نصيحة أخذ فترات راحة منتظمة هامة جداً.