الجاذبية الصغرى: ثورة علاجية في الفضاء وتطبيقاتها المستقبلية على الأرض
رحلات الفضاء ليست للمتعة أو الاستكشاف فحسب، بل قد تكون ذات أغراضٍ علاجية مستقبلاً، وربّما يمكن الاستفادة من "الجاذبية الصغرى" في الفضاء في استحداث تقنيات أرضية تعتمد عليها رأسًا.
وقد بدأ ذلك بالفعل بزراعة الخلايا الجذعية، التي تساعد على تجديد خلايا الجسم وإصلاحها في الفضاء، وكانت النتائج مبشّرة؛ إذ كانت لها صفات فريدة قد تفيد في علاج الأمراض التي تُصِيب المرء مع تقدّم العمر.
كما استخدمت تقنية الجاذبية الصغرى في بعض أجهزة المشي، التي تُساعِد على التأهيل البدني بعد الإصابات أو العمليات، فما أوجه الاستفادة الأخرى التي قد يحملها لنا المستقبل من هذه التقنيات؟
ما الجاذبية الصغرى (Microgravity)؟
"الجاذبية الصغرى" هي انعدام الوزن أو انعدام الجاذبية، لكن لأن جميع الأجسام تمارِس جذبًا للأجسام الأخرى، فلا يُوجَد شيء اسمه الغياب الكامل للجاذبية، وإنّما وجود قدر ضئيل من الجاذبية، كما يكون الحال في الفضاء الخارجي بالنسبة للجاذبية على سطح الأرض مثلًا، فيُسمّى ذلك بـ"الجاذبية الصغرى".
تجديد الشباب في الفضاء
وقد حاول العلماء خلال العقود الماضية الاستفادة من هذه الجاذبية، فيما حقق بعض الدراسات والتجارب العلمية نتائج واعدة في هذا السياق. وعلى سبيل المثال فقد أكّد باحثون من "Mayo Clinic" أنّ الخلايا الجذعية التي تُزرَع تحت تأثير الجاذبية الصغرى على متن محطة الفضاء الدولية، لها صفات فريدة، يمكن أن تساعد يومًا ما على تسريع العلاجات الحيوية الجديدة، ومعالَجة الأمراض المُعقّدة.
فقد كشفت دراسة الخلايا الجذعية في الفضاء عن آليات خلوية لم تُكتشَف، ولم تكُن معروفة في الجاذبية الطبيعية للأرض، ويهدف الباحثون هنا إلى تعزيز نمو كميات كبيرة من الخلايا الجذعية الآمنة وعالية الجودة، لتحسين علاج بعض الأمراض المرتبطة بالتقدم في العمر، مثل السرطان والسكتة الدماغية وألزهايمر وغيرها من الأمراض.
وحسب العلماء، يمكن استخدام الخلايا الجذعية المزروعة في الفضاء لإعادة إنشاء نماذج أنسجة نابضة بالحياة، سواء في حالة السرطان أو الأمراض الأخرى، كما يمكن استخدام هذه النماذج لتتبّع تطور المرض واختبار علاجات جديدة قادرة على إيقافه.
وثمة العديد من الخلايا الجذعية التي نمت في بيئة الجاذبية الصغرى ذات إمكانيات علاجية، وهي:
- الخلايا الجذعية المتوسّطية: هي خلايا جذعية ناضجة، تُفرِز عوامل النمو، وتساعد على الشفاء، ولها قدرة أكبر على تثبيط المناعة عند زراعتها في الفضاء مقارنةً بالأرض، ما قد يكون مفيدًا في علاج الأمراض المناعية.
- الخلايا الجذعية المُكوِّنة للدم: تمتلك قدرات على تجديد خلايا الدم لمحاربة العدوى ووقف النزيف، وإيصال الأكسجين لمختلف خلايا الجسم، كما أظهرت الخلايا الجذعية المكوِّنة للدم، والتي نمت في الفضاء القدرة على التمايز إلى خلايا الدم الحمراء أو البيضاء، التي يمكن استخدامها يومًا ما للتعامل مع سرطانات الدم.
- الخلايا الأصلية للقلب والأوعية الدموية: تُوفِّر اللبنات الأساسية للأوعية الدموية وعضلات القلب، كما تُسهِم في إصلاح العضلات، ويمكن أن توفِّر تلك الخلايا خيارات جديدة لإصلاح الأنسجة المتضررة من النوبة القلبية.
- الخلايا الجذعية العصبية: خلايا تُسهِم في نمو الدماغ وإصلاحه، وفي البيئة الخالية من الجاذبية في الفضاء، توسعت تلك الخلايا، ويدرس الباحثون ما إذا كانت تلك الخلايا المزروعة في الفضاء يمكن أن تقدّم علاجًا بديلاً لأمراض الجهاز العصبي أم لا.
فيما يُساعِد الفضاء على تسريع نمو الخلايا الجذعية، التي يمكن الاستفادة منها في علاج الأمراض المُعقّدة، كما قد يمكن الاستفادة من العلاجات المُخصّصة بالخلايا الجذعية المزروعة في الفضاء، بدءًا من مكافحة الشيخوخة، مرورًا بتسريع عمليات الشفاء، وانتهاءً بالتغلب على الأمراض المُعقّدة.
ما العقبات التي تواجه الاستفادة من الخلايا الجذعية في الفضاء؟
على الرغم من الأبحاث الواعدة بشأن الخلايا الجذعية خارج كوكب الأرض، فإن هناك العديد من التحديات؛ إذ قد تفقد الخلايا قوتها وقدرتها على العمل بعد التعرّض طويل الأمد للجاذبية الصغرى، كما قد يُتلِف إشعاع الفضاء الحمض النووي للخلايا، ويؤثر في نموها.
فأبحاث الخلايا الجذعية المزروعة في الفضاء لا تزال في مراحلها الأولى، وهناك حاجة إلى مزيدٍ من البيانات العلمية والبحوث والتمويل لمساعدة الباحثين على فهمٍ أدقّ وأعمق لإمكانات الخلايا الجذعية المزروعة في الفضاء، وقدرتها على تجديد الشباب وعلاج الأمراض.
الجاذبية الصغرى وإعادة التأهيل البدني
بعيدًا عن الفضاء، ولكن باستخدام تقنيته "الجاذبية الصغرى"، أمكن إنشاء أجهزة المشي ذات الجاذبية الصغرى، كأداة شائعة في بعض عيادات العلاج الطبيعي لإعادة التأهيل.
وتساعد هذه الأجهزة على تقليل ضغط قوة الجاذبية التي يشعر بها الجسم، بما يسمح بإعادة التأهيل البدني وممارسة الرياضة، دون وجود ضغط على المفاصل والعضلات، وتُفِيد تلك الأجهزة أيضًا في:
1. تحسين حركة المفاصل وتخفيف الآلام:
تساعد أجهزة المشي بالجاذبية الصغرى في العلاج الطبيعي على تحسين حركة المفاصل وتخفيف الألم؛ إذ تقلِّل القوة التي يتعرّض لها الجسم في أثناء التمرين، بل قد تساعد المرء على إجراء حركات كانت ستصبح مؤلمة جدًا له أو يصعب إكمالها.
كما أنّ هذه الأجهزة تساعد على استعادة القوة والمرونة الجسدية بعد التعرّض لإصابة أو الخضوع لجراحةٍ، وكذلك تحسين نطاق حركة المفاصل وتقليل خطر التعرّض لإصابات إضافية.
2. تعزيز توازن الجسم:
كذلك يمكن استخدام أجهزة المشي بالجاذبية الصغرى لتحسين توازن الجسم، فمن خلال تقليل قوة الجاذبية، يمكن ممارسة تمارين التوازن دون خوف السقوط أو التسبُّب في مزيدٍ من الإصابة، وهذا مفيد خاصةً لمن يتعافون من الإصابات أو العمليات الجراحية التي أثّرت في قدرتهم على التوازن.
اقرأ أيضًا:كنوز فاخرة من قلب الطبيعة.. إليك فوائد أغلى الأعشاب الطبية
3. تسريع التعافي:
أيضًا تساعد تلك الأجهزة في تسهيل التعافي، فبتقليل قوة الجاذبية، يمكن إعادة التأهيل وممارسة الرياضة بتكرار وبألم أقل، ما يُساعِد على التعافي بسرعة أكبر، وهذا قد يكون مفيدًا خاصةً للرياضيين أو غيرهم، ممن يرغبون في العودة إلى أنشطتهم العادية في أقرب وقتٍ ممكن.