كيف استطاعت المملكة ترسيخ قوتها في مجال الذكاء الاصطناعي؟
تبرز السعودية كمركز عالمي للذكاء الاصطناعي، وقد وضعت نصب عينيها أن تصبح رائدة ومؤثرة في هذا المجال، تماشياً مع رؤية 2030، الهادفة إلى تنويع اقتصادها، ومن ثم فقد استثمرت ملايين الدولارات، وبدأت تقترب أكثر فأكثر من تحقيق الأهداف المحددة.
ولكن الطموحات لم تنته عند الاستثمار، حيث دارت تروس العمل الجدي في إطار سعى المملكة لأن تصبح بين أفضل 15 اقتصاداً عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. ولتحقيق ذلك لم يكن التركيز فقط على البنية التحتية، بل على تعزيز المواهب والمهارات أيضاً، وتدريب أكثر من 20 ألف متخصص وخبير، مهمتهم قيادة المملكة نحو هدفها.
في السنوات القليلة الماضية، استضافت المملكة العديد من المؤتمرات والقمم، وأعلنت عن خطط للتعاون في أخلاقيات الذكاء، وأنشأت شركات ومؤسسات وصناديق دعم، للدفع بالمخططات قدماً، ولجعل البلاد مركزاً لابتكار الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط. ومع الاستثمار المستمر والتركيز على التنمية المستدامة من خلال التكنولوجيا، تضع السعودية نفسها على خريطة الدول الأكثر قوة في هذا المجال.
المملكة الأولى عالمياً في معيار الاستراتيجية الحكومية
في العشرين من سبتمبر الجاري حققت السعودية مراكز متقدمة في المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي، وفق تقرير صادر عن شركة "توتويز ميديا Tortoise Media"، وهو التقرير الذي اعتمد مؤشرات جديدة هذا العام، ووسع نطاقه الجغرافي ليشمل 83 دولة، بزيادة 62 دولة عن العام السابق، مع مؤشرات جديدة تطال 3 ركائز، وهي: التنفيذ والابتكار والاستثمار.
ومن هذه الركائز يتم قياس النطاق، وقدرة البلدان في مجال الـ AI، مقارنة بعدد السكان وحجم الاقتصاد، بالإضافة إلى البنية التحتية وبيئة التشغيل والبحث والتطوير والنظام التجاري والاستراتيجية الحكومية.
اقرأ أيضًا| الذكاء الاصطناعي يكافح أنواعاً متعددة من السرطان
وقد حلت السعودية في المركز الرابع عشر عالمياً ضمن تصنيفات الدول وفق قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي، كما حلت في المركز الأول عالمياً في معيار الاستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي، وفي المركز السابع لناحية تسخير الذكاء الاصطناعي في التجارة.
ووفق التقرير، تفوقت السعودية على أمريكا والصين لناحية التزامها بالإنفاق العام، حيث تزايد الإنفاق على الذكاء الاصطناعي بشكل كبير عالمياً، لكن السعودية تفوقت على كل من الولايات المتحدة والصين في التزامها بالإنفاق العام.
السعودية والاستثمارات الجريئة في الـAI
في عام 2016 تم إطلاق رؤية 2030، التي تضمنت 3 محاور رئيسية، وهي: مجتمع حيوي وإقتصاد مزدهر ووطن طموح، وهذه المحاور الثلاثة الأساسية تهدف إلى تحسين ورفع إسهامات مختلف القطاعات في الدولة، والسعي لتحويل الشركات السعودية من شركات إقليمية إلى عالمية.
ومنذ إطلاق رؤية 2030، ضخت السعودية مليارات الدولارات في قطاع الذكاء الاصطناعي، وذلك لأن 70% من الأهداف الـ96 المحددة، تتضمن استخدام الـAI، ما يعني السعي الجدي لتحقيق كل الأهداف.
أطلقت المملكة كذلك عدة مبادرات وصناديق لدعم تطوير وتبني الــAI، ويقود صندوق الاستثمارات العامة هذه الجهود، من خلال إنشاء صندوق استثماري بقيمة 40 مليار دولار، ودوره هو تعزيز الأبحاث وتطوير المواهب وبناء البنية التحتية الحيوية كالحوسبة السحابية ومراكز البيانات.
كما تم إنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، التي أنشئت عام 2019 للإشراف على مبادرات الذكاء الاصطناعي والبيانات، وتهدف إلى وضع المملكة ضمن أفضل 10 دول في هذا المجال بحلول 2030، وهي بالفعل تقترب من تحقيق الهدف.
فيما تهدف الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي التي تم إطلاقها في عام 2020، إلى جذب استثمارات بقيمة 20 مليار دولار بحلول عام 2030.
اقرأ أيضًا: بتجارب فنية وتعليمية.. متحف "تيم لاب بلا حدود جدة" يحتفل باليوم الوطني الـ94
كذلك جاءت الشركة السعودية للذكاء الاصطناعي المدعومة من صندوق الاستثمارات العامة، لتلعب دوراً كبيراً في هذا المجال أيضاً، من خلال الشراكات الاستراتيجية مع شركات كبرى مثل "أرامكو"، وشركة "الاتصالات السعودية" لتعزيز قدرات الذكاء في المملكة.
و في عام 2018 أُطلقت مبادرة "فنتك"، التي تهدف إلى إطلاق إمكانات السعودية كوجهة رائدة في مجال التقنية المالية، ودعم البنية التحتية، وتطوير المواهب التي تتطلبها شركات التقنية المالية، وتمكين رواد الأعمال، وبالفعل حققت نتائج لافتة في السعي لتحويل المملكة إلى وجهة للتقنية المالية، كالدفع الإلكتروني والتخزين السحابي ومراكز البيانات اللامركزية والذكاء الاصطناعي وغيرها.
وقد كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" في مارس 2024، اعتزام السعودية إنشاء صندوق بقيمة 40 مليار دولار، من خلال شراكة مع "أندريسن هورويتز Andreessen Horowitz" ، شركة رأس المال الاستثماري في "سيلكون فالي"، بالإضافة إلى ممولين آخرين، وفي المقابل ووفق "سدايا" فإن الاستثمارات تجاوزت الـ1,6 مليار دولار ، مع ترجيح ارتفاعها إلى 20 مليار دولار بحلول العام 2030.
وتعزز استثمارات شركات التكنولوجيا مثل "مايكروسوفت Microsoft" و"أوراكل Oracle" وخدمات "أمازون ويب Amazon Web" مكانة السعودية كواحدة من المراكز الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط، ما يعزز دورها في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي إقليمياً وعالمياً.
الشراكات والاتفاقيات الاستشرافية
وقعت السعودية اتفاقيات تعاون وشراكات عديدة مع جهات مختلفة، لعل منها اتفاقية الشراكة مع "سوفت بنك Softbank"، وهي شراكة مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي بقيمة 150 مليون دولار، لتأسيس شركة الأتمتة الصناعية الحديثة، التي ستصنع الروباتات الصناعية، وهو مركز تصنيع وهندسة مؤتمت بالكامل، ومن المفترض أن يتم افتتاحه خلال شهر ديسمبر من العام الحالي.
شراكة أخرى مع "آي بي أم IBM" أجرتها المملكة، من خلال مذكرة تفاهم مع "سدايا"، لإنشاء مركز متخصص في تطوير الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التركيز على اكتشاف المواهب وتطويرها، من تحدي "علام" إلى برنامج "همة"، فإن الغاية هي استقطاب أصحاب المواهب وتدريبهم، ليضاف إلى برنامج أخرى تابعة لشركة "آلات"، التابعة لصندوق الاستثمارات العامة، التي ستعمل على برامج تدريبية في هذا المجال لطلاب العلوم والهندسة بالشراكة مع "جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية"، بما يتضمن من معسكرات تدريبية في "جامعة أكسفورد".
اقرأ أيضًا| تقنية جديدة بالذكاء الاصطناعي لكشف ارتفاع ضغط الدم من خلال الصوت
كما طالت الشراكة بين السعودية والصين مجالات عديدة من ضمنها الذكاء الاصطناعي، ومن الاتفاقيات الأبرز هنا، الشراكة مع "داهو تكنولوجي Dahua Technology" لتطوير أول منشأة تصنيع خارجية لها في المملكة.
وفي المقابل استضافت السعودية العديد من القمم والمؤتمرات، التي ركزت على الذكاء الاصطناعي والتقنيات ذات الصلة، ولعل أحدثها القمة العالمية التي نظمتها "سدايا"، التي اختتمت أعمالها في الثاني عشر من سبتمبر، بتوقيع 80 اتفاقية ومذكرة تفاهم محلية ودولية.
ومن بين هذه الاتفاقيات، مذكرة تفاهم مع وزارة السياحية، لإنشاء "مركز التميز للذكاء الاصطناعي"، ومذكرة تفاهم مع "جامعة القصيم"، كما تم تدشين منصة "ديم" الذكية، لتقدم مجموعة حلول مبنية على الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، بالإضافة إلى مذكرات تفاهم مع شركات وزارات التكنولوجيا والهندسة والدفاع.
أما مؤتمر "ليب LEAP 24"، الذي شاركت فيه أكثر من 1800 جهة عالمية ومحلية، و215 ألف زائر، وتم خلاله الإعلان عن استثمارات تتجاوز قيمتها 13.4 مليار دولار، فقد جاء ليبرز جهود المملكة في هذا المجال.
ومن أبرز الاعلانات خلال المؤتمر استثمار شركة "أمازون ويب سيزفيس Amazon Web Services" نحو 5.3 مليار دولار لانشاء منطقة سحابية فائقة السعة، واستثمار "أي بي أم IBM" نحو 250 مليون دولار لإقامة أول مركز عالمي لتطوير البرمجيات، و500 مليون دولار من "سيرفيس ناو ServiceNow" لإطلاق أول مركز بيانات لها في المنطقة.
كما أطلق البرنامج الوطني لتنمية تقنية المعلومات خمس مبادرات داعمة لريادة الأعمال الرقمية، و7 صناديق استثمارية بقيمة 888 مليون دولار، فيما تستمر جهود المملكة الاستشرافية نحو المزيد.
الدور المحوري لـAI في التحول الاقتصادي للمملكة
يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في تحويل اقتصاد السعودية، حيث يعزز النمو في العديد من القطاعات، مع سعيها لتصبح رائدة عالمياً في تطوير الذكاء، ولعل جزءاً كبيراً من استراتيجية السعودية تتمثل في الاستثمارات والجهود التي غايتها التحفيز على الابتكار، وخلق فرص العمل وتعزيز الريادة.
حالياً يتم استخدام الـAI في قطاعات رئيسية بالمملكة، كالرعاية الصحية والتعليم والتمويل والترفيه والصناعة، فعلى سبيل المثال يتم اعتماد الـAI في "مستشفى الملك فيصل التخصصي"، الذي يستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحسين رعاية المرضى والكفاءة التشغيلية، أما في مجال التعليم، فيتم توفير منصات تعليمية متكيفة متفاعلة لتحسين تجربة التعلم.
ومن المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بأكثر من 135 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بحلول عام 2030، وفي المقابل أشارت دراسة أجرتها شركة "إكسنتشر Accenture"، إلى أنه سيعزز النمو السنوي بنسبة 1.1%، ما يضيف 215 مليار دولار إلى الاقتصاد بحلول عام 2035، وستستفيد القطاعات بشكل عام منه، حيث سيقوم الذكاء الاصطناعي بإتمام المهام الروتينية، ما يسمح للبشر بالتركيز على الجزئيات المعقدة.
هذه المبادرات والاستثمارات والالتزام بالإنفاق لا تسهم فقط بتعزيز الاقتصاد وتنويعه فحسب، بل تضع المملكة العربية السعودية في موقعها المستحق كقوة تكنولوجية في الشرق الأوسط والعالم.