رغم التحديات.. السعودية تواصل مسيرتها نحو بناء اقتصاد قائم على الذكاء الاصطناعي
أصبح الذكاء الاصطناعي من المقوّمات الوطنية التي تتسابق كثير من الدول المتقدمة لاستخدامه، وذلك للاستفادة منه في بناء اقتصادات متينة، تعتمد على البيانات والتقنيات الحديثة، غير أن حداثة الذكاء الاصطناعي وسرعة تطوّره تولّدان تحديات هائلة أمام المملكة العربية السعودية، التي تعمل على تذليلها لتحقيق أقصى استفادة من دمج الذكاء الاصطناعي بمختلف جوانب الاقتصاد.
ومن بين هذه التحديات يبرز تحدي ندرة المواهب المحلية، واستهلاك هذه التكنولوجيا بدلاً من تطويرها، والبنية التحتية اللازمة لتطوير هذا القطاع المهم.
المواهب المحلية وتنميتها
يأتي توافر المواهب المحلية وتنميتها في مقدمة التحديات التي تواجهها المملكة العربية السعودية، لتمكين الذكاء الاصطناعي وتحقيق الاستفادة القصوى منه اقتصادياً، إذ يضع التصنيف الصادر عن "تورتواز إنتليجنس" المملكة في المرتبة 53 عالمياً خلال العام الماضي على هذا المؤشر، لذا تسعى السعودية إلى إيجاد توازن يلبي احتياجاتها بين جذب المواهب العالمية، وتنمية المواهب المحلية.
وخلال الأشهر القليلة الماضية خطت المملكة خطوات واعدة تصب في إطار جذب المواهب وتنميتها، ففي يناير 2024 أعلنت عن 5 فئات جديدة من تأشيرات الإقامة المميزة، لاستقطاب المستثمرين وروّاد الأعمال وأصحاب الكفاءات، كما اتفقت في سبتمبر الماضي، مع جمهورية الهند على تسهيل الوصول للمواهب والموارد بين البلدين.
دور محوري في الاقتصاد العالمي
تشير غالبية التقارير والتوقعات إلى أن دور الذكاء الاصطناعي في الاقتصادات خلال السنوات المقبلة سيكون محورياً، حيث بيّنت دراسة لشركة "بي دابليو سي" للأبحاث، أن مساهمته في الاقتصاد العالمي يمكن أن تصل إلى 15.7 تريليون دولار بحلول 2030، في حين أن مساهمته بالاقتصاد السعودي مرشحة لتجاوز 135 مليار دولار بنهاية العقد.
مستهدفات رؤية المملكة 2030
وإدراكاً منها بأهمية هذا القطاع، عملت السعودية على تسريع الخطى في جذب المواهب، والإنفاق على البحث والتطوير، والبنية التحتية، فصارت من الدول السبّاقة إلى استخدام تقنيات البيانات والذكاء الاصطناعي لتحقيق مستهدفات رؤية 2030، ومن ذلك إنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا"، لتعزز مكانة المملكة ضمن أفضل الدول الرائدة في الاقتصادات المستدامة المعتمدة على البيانات والذكاء الاصطناعي.
كما أطلقت المملكة بنهاية عام 2020 الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، التي مكّنتها من تبوؤ المرتبة الأولى عالمياً بمؤشر الاستراتيجية الحكومية، ضمن التصنيف العالمي للذكاء الاصطناعي الصادر عن "تورتواز إنتليجنس" العام الماضي.
تعزيز وتنمية المواهب المحلية
هذا، وأفاد تقرير "رؤية 2030"، الصادر في إبريل 2024، بأن السعودية تسعى إلى تطوير قطاع الذكاء الاصطناعي، من خلال تعزيز التعاون الدولي وتنظيم فعاليات وقمم عالمية متخصصة في هذا المجال، كما أشار التقرير إلى توقيع اتفاقيات استراتيجية مع شركات تكنولوجية رائدة عالمياً، بالإضافة إلى تدريب الكوادر الوطنية ورفع كفاءتها في هذا القطاع الحيوي.
وكان آخر هذه الشراكات، تعاون المملكة مع "آي بي أم" العالمية لتطوير نظم الذكاء الاصطناعي العربية، إلى جانب إطلاق شركة "آلات"، التابعة لصندوق الاستثمارات العامة، لبرنامج تدريبي بمجال الذكاء الاصطناعي لأفضل طلاب العلوم والهندسة السعوديين، بالشراكة مع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية "كاوست"، يتضمن أيضاً معسكرات تدريبية في "جامعة أكسفورد".
كما أعلنت شركة "آلات" عن إضافة وحدتين جديدتين لأعمالها، ترتبطان بالتحول الكهربائي، وتطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وهو قطاع يُتوقع أن يصل حجمه إلى 460.5 مليار دولار بحلول عام 2033، وأعلنت أيضاً، في مايو الماضي، عن اتفاقية تعاون استراتيجية مع شركة "لينوفو"، تهدف لجعل المنطقة مركزاً عالمياً للابتكار، مع التركيز على تعزيز وتنمية المواهب المحلية.
اقرأ أيضًا: التعاون الاقتصادي بين السعودية ودول آسيا.. آفاق واعدة لشراكة استراتيجية
جذب الشركات العالمية
وخدمة لهدف تنمية الكوادر الوطنية وتطوير مهاراتهم، تسعى السعودية لجذب الشركات العالمية المتخصصة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وقد شهدت الفترة الأخيرة إعلان عمالقة مثل: "أمازون" و"جوجل" و"مايكروسوفت" و"علي بابا" الصينية، عن نقل مقارها الإقليمية إلى العاصمة الرياض، إلى جانب ضخ استثمارات كبيرة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية السحابية داخل المملكة.
إصرار حكومي على إنجاح قطاع الذكاء الاصطناعي
تدرك السعودية أن جذب الشركات العالمية لا يكفي وحده لبناء صناعة ذكاء اصطناعي محلية رائدة إقليمياً ومنافسة على الصعيد الدولي، لذا تسعى إلى إنشاء منظومة عمل متكاملة، تمكّنها من تحقيق أهدافها، حيث تمتلك المملكة إصراراً حكومياً على نجاح هذا القطاع، إلى جانب القدرة المالية لتحقيق هذه الأهداف.
وخلال مشاركته في جلسة حوارية ضمن افتتاح قمة "الأولوية" التابعة لمبادرة مستقبل الاستثمار، التي أقيمت في مدينة ميامي بالولايات المتحدة الأمريكية، في فبراير 2024، صرح "ياسر الرميان" محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي، أن المملكة تركز على عدد من القطاعات الأساسية، وذكر منها "الذكاء الاصطناعي، وعلم الروبوتات"، لتحقيق الأثر المستدام في الاقتصاد السعودي دعماً لرؤية 2030، وأكد أن السعودية تطمح لأن تصبح مركزاً عالمياً رائداً في هذا المجال خارج الولايات المتحدة.
وفي ديسمبر 2023، أعلنت حكومة المملكة عزمها استثمار أكثر من 20 مليار دولار في مشاريع الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، موضحة أن رؤية 2030 تستهدف استحداث 40 ألف وظيفة مباشرة، وغير مباشرة، تتعلق بمجال البيانات والذكاء الاصطناعي، وتدريب 40% من القوى العاملة المعنية على البيانات والذكاء الاصطناعي، ليكون لديها في النهاية أكثر من 20 ألف متخصص في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي.
البحث والتطوير في السعودية
يُعدّ البحث والتطوير ركيزة أساسية في بناء البنية التحتية المحلية للذكاء الاصطناعي في السعودية، ووفقاً لتصنيف "تورتواز"، احتلت المملكة المرتبة 41 في مؤشر التطوير، والمرتبة 37 في مؤشر الأبحاث.
وفي أبريل الماضي، أكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، خلال جلسة حوارية خاصة ضمن المنتدى الاقتصادي العالمي، في الرياض، أهمية تعزيز الاستثمارات في مجالات البحث والتطوير.
وبلغ حجم إنفاق المملكة على البحث والتطوير نحو 19.2 مليار ريال في عام 2022، مسجلاً زيادة بنسبة 33% مقارنة بالعام السابق، وفقاً للهيئة العامة للإحصاء. وكان الإنفاق الحكومي هو المحرك الأساسي لهذا النشاط، حيث شكّل 58% من إجمالي الإنفاق.
تطوير التكنولوجيا بدلاً من استهلاكها
هناك أيضاً عوائق رئيسة تعرقل عملية دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في المؤسسات العامة والخاصة بالمملكة العربية السعودية، ولعل أحد أبرز هذه العوائق يكمن في أن تقنيات الذكاء الاصطناعي المتاحة غالباً ما تكون موجهة لمناطق جغرافية معينة، ما يضطر دول المنطقة إلى استيراد هذه التقنيات، كما أنها أيضاً غالباً ما تكون معقدة وصعبة الاستخدام، وتحتاج إلى خبرات متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا الشأن، أكد وزير الصناعة والثروة المعدنية "بندر الخريف"، خلال إطلاق شركة "آلات"، أن الشركة تسعى إلى تقديم منتجات نهائية للمستهليكن، والمساهمة في تطوير التكنولوجيا محلياً بدلاً من الاعتماد على استيرادها.
من استهلاك التكنولوجيا إلى تصنيعها وتصديرها
شركة "آلات"، يرأس مجلس إدارتها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويدعمها صندوق الاستثمارات العامة، وقد أُنشئت لإبرام صفقات مع جهات دولية، والاستثمار في الشركات الصناعية الكبرى التي ترغب المملكة في رؤيتها تمارس عملياتها محلياً، كما تخطط الشركة لاستثمار 100 مليار دولار بحلول عام 2030.
وتتمثل إحدى مهمات الشركة الرئيسة في ترسية أسس انتقال المملكة من استهلاك التكنولوجيا إلى تصنيعها محلياً وتصديرها، وفقاً للرئيس التنفيذي للإدارة الاستراتيجية في الشركة "أحمد عالم"، خلال مقابلة أجراها مع "الشرق - بلومبيرغ".
ونبّه "أحمد عالم"، بأنه من خلال الشراكات العالمية، تهدف شركة "آلات" إلى إنشاء مصانع في المملكة العربية السعودية لتغطية وتصنيع كل مراحل الإنتاج، من البحث والتطوير، وصولاً إلى التصميم، ثم الإنتاج والتوزيع.
اقرأ أيضًا: ريادة الأعمال في السعودية.. مستقبل أكثر إشراقًا ينتظر راغبي النجاح
البدء من القاعدة
تجدر الإشارة إلى أن ملء منظومة عمل الذكاء الاصطناعي السعودية بالكوادر الوطنية يحتاج إلى البدء من القاعدة، أي من المراحل الدراسية الأولى، لذا فإن "سدايا" أطلقت العديد من البرامج والمبادرات، بهدف تزويد الطلاب بالمعلومات الأساسية بشأن الذكاء الاصطناعي، بالإضافة لمعسكرات تدريب لتطوير النماذج اللغوية الكبيرة مخصصة للسعوديين.
كما أعلنت شركة "أمازون" عن إطلاق أكاديمية رقمية في السعودية، لتنمية المواهب في الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، في وقت أطلقت المملكة مسرّعة أعمال للذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باستثمارات قيمتها 600 مليون ريال سعودي، فضلاً عن أن القطاع التعليمي بات أكثر انخراطاً في هذا المجال، وأصبحت هناك 6 جامعات في المملكة تقدم شهادة تخصص في مجال الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن جامعتين تقدمان برامج الماجستير في هذا العلم المهم للاقتصادات المستدامة، المعتمدة على البيانات والذكاء الاصطناعي.