بين التباهي والشغف.. لماذا يستثمر الأثرياء في الفن؟
هل سبق وأن تساءلت عن السبب الذي قد يدفع شخصًا لدفع ملايين، بل مئات الملايين من الدولارات، لشراء لوحة فنية رُسِمت منذ عشرات أو مئات السنين؟ الحقيقة أن الأمر يستحق التساؤل ليس لأنه مثيرٌ للفضول وحسب، وإنما لوجود العديد من الأسباب وراء ذلك، فشراء اللوحات والاستثمار في الفن عمومًا أصبح أشبه بالصيحة أو "الموضة" أو حتى العُرف بين الأثرياء، وليس لدافعٍ ماديّ فحسب، وإنما لأسباب مختلفة -بما فيها الدافع المادي بالطبع- كما سنرى في السطور القادمة.
فما هي هذه الدوافع؟ وما أشهر اللوحات الفنية التي اشتراها الأثرياء؟ وبكم اشتروها؟ وما قصة اللوحة الأغلى في التاريخ؟
لماذا يشتري الأثرياء اللوحات الفنية؟
1. للاستثمار
لعل السبب الأول في شراء الأثرياء للوحات والقطع الفنية عمومًا هو الاستثمار، فالاستثمار في الفن يحقق عوائد مثيرة للإعجاب، وعلى أساسٍ مستمر. وبحسب مؤشر "نايت فرانك للاستثمار الفاخر- Knight Frank Luxury Investment Index"، فإن الاستثمار في الفن خلال الفترة من يونيو 2022 وحتى يونيو 2023 -على سبيل المثال- قد حقق نموًّا بنسبة 30%.
لك أن تتخيل أن ديفيد جيفن، وهو منتج أفلام أمريكي مشهور، قد اشترى في عام 1989 لوحة "Jackson Pollock" بمبلغ مليوني دولار ثم عاد وباعها في 2006 بـ 140 مليونًا! مثالٌ آخر نجده في عائلة غوغنهايم Guggenheim التي اشترت لوحة فان غوخ الشهيرة "ليلة النجوم- The Starry Night" بـ 80 ألف دولار فقط في عام 1941 لتصل قيمتها الآن إلى 100 مليون دولار!.
2. للشغف بالفن
إذا كان الشخص الثري شغوفًا بالفن، فمن الوارد جدًّا أن يشتري اللوحات الفنية فقط لإرضاء شغفه، الذي قد يمتد لأكثر من هذا الغرض بمراحل؛ في ثمانينيات القرن الماضي على سبيل المثال، جمع رجل الأعمال الأمريكي "إيلي برود- Eli Broad" وزوجته مجموعة كبيرة من اللوحات وصل عددها إلى 8700 لوحة فنية من مجموعته الخاصة وأهداها إلى أكثر من 550 متحفًا ومعرضًا في جميع أنحاء العالم، ما أدى إلى زيادة وصول الجمهور إلى الفن المعاصر في ذلك الوقت.
أثرت مبادرة "برود" بشكلٍ إيجابيّ على متحف الفن المعاصر في لوس أنغلوس تحديدًا "MOCA"، فضلاً عن متحف "The Broad" الذي افتُتح في 2015 ليعزز من مكانة لوس أنغلوس الفنية ويرينا مثالاً واضحًا عن كيف يمكن للشغف بالفن أن يمتلك أبعادًا عظيمة.
3. لبناء إرثٍ فنيّ
سببٌ ثالث يدفع الأثرياء لشراء اللوحات والقطع الفنية هو بناء إرثٍ فني لهم ولنسلهم، وعادةً ما يكون هذا الغرض مُرتبطًا بالغرضين السابقين. ولعل أبرز الأمثلة على بناء إرثٍ فني نجده في عائلة "روكفلر" التي جمعت مجموعة باهرة من أعمال بيكاسو ومونيه على مر الأجيال، وهو الأمر الذي لم يساعدها على بناء هذا الإرث فحسب، بل بناء ثروة أيضًا إذ باعت لوحة بيكاسو "الفتاة مع سلة الزهور- Young Girl with a Flower Basket" وحدها بما يزيد على 115 مليون دولار.
4. للتباهي
إن من أهم الأسباب التي تدفع الرجل الثري لشراء اللوحات الفنية والاستثمار فيها هو التباهي، والتباهي هنا يكلّفه مئات الملايين كما أشرنا وكما سنرى بعد قليل، وإن كنتَ لا تطيق الانتظار وتريد أمثلةً أخرى غير الأمثلة التي أوردناها -والتي قد يكون الغرض من وراءها التباهي أيضًا-، فما رأيك بأن مدير صندوق التحوط والملياردير الأمريكي ستيف كوهين قد اشترى لوحة "Woman III" للفنان ويليام دي كوننغ مقابل 137.5 مليون دولار في عام 2006، ولم يكتف بذلك، حيث اشترى لوحات أخرى مثل "Masterpiece" لروي ليختنشتاين مقابل 165 مليون دولار في 2017 و"Le Rêve" أو "الحلم" لبابلو بيكاسو مقابل 155 مليون دولار في 2013.
اقرأ أيضًا: بين التحدي وتحقيق التوازن.. ما الرياضات التي يفضلها أثرياء العالم؟
5. للأغراض الخيرية
لا تقتصر أسباب شراء الأثرياء للقطع والرسومات الفنية على المنافع الشخصية من الاستثمار والتباهي وخلافهما، وإنما تمتد للأسباب الخيرية كذلك، وهذا ما أوضحناه في مثال "إيلي برود- Eli Broad" ومتحف الفن المعاصر بنيويورك ونوضحه الآن بمثالٍ آخر:
في عام 2013، تبرع الملياردير ليونارد لودر؛ وريث ثروة العلامة التجارية الشهيرة "Estée Lauder"، بمجموعة من لوحات الفن التكعيبي التي تقدر قيمتها بأكثر من مليار دولار -تشتمل على نحو 50 عملاً لبيكاسو وغيره من الفنانين- إلى متحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك.
أغلى اللوحات الفنية في التاريخ
أما وقد تحدثنا عن بعض الأسباب التي تدفع البعض إلى شراء اللوحات الفنية ودللنا ببعض الأمثلة الضمنية، دعونا نتحدث عن عددٍ من اللوحات الأشهر والأغلى في التاريخ:
"حامل الراية" The Standard-Bearer (198 مليون دولار)
تُجسد لوحة "حامل الراية" أو "The Standard-Bearer"، التي تُعد سادس أغلى لوحة فنية في التاريخ، مهارة الرسام الهولندي الشهير رامبرانت وقدرته الاستثنائية في فن البورتريه تحديدًا.
رُسِمت هذه اللوحة في عام 1636 وكانت في وقتٍ ما مملوكة لملك إنجلترا جورج الرابع قبل أن تنتقل إلى عائلة روثتشايلد في أواسط القرن التاسع عشر.
في أواخر عام 2021، أعلنت الحكومة الهولندية اعتزامها شراء هذا العمل الفني من العائلة الإنجليزية وضمه إلى المجموعة الوطنية من اللوحات التابعة للبلد وهو ما كان، حيث وافقت عائلة روثتشايلد وتمت الصفقة مقابل 198 مليون دولار في عام 2022 ومنذ ذلك الحين واللوحة تُعرَض في العديد من المتاحف الهولندية.
Number 17A (200 مليون دولار)
أبدع جاكسون بولوك في رسم هذه اللوحة في عام 1948 مُستخدمًا أسلوب التنقيط، وهو ما ساعده على التعبير عن مشاعره وعفويته بطريقة لم يسبق لها مثيل. وتُعد لوحة Number 17A ذات أهمية تاريخية لأنها تجسد ذروة مسيرة بولوك المهنية ومساهماته في الفن الحديث.
ديفيد جيفن، وهو المنتج الذي أتينا على ذكره بالأعلى، كان أحد المالكين البارزين لهذه اللوحة إلى أن جاء الملياردير كينيث سي غريفين واشترى اللوحة مقابل 200 مليون دولار ليجعلها واحدة من أغلى اللوحات الفنية في التاريخ، وهي الآن في المرتبة الخامسة.
?Nafea Faa Ipoipo (210 ملايين دولار)
بالعربية "متى ستتزوج؟"... رسمها الفنان الفرنسي بول غوغان في أثناء وجوده في جزيرة تاهيتي "اسم اللوحة مكتوب بلغة الجزيرة" عام 1892. تشتهر بألوانها النابضة بالحياة، وطابعها المميز، وعمقها الذي يعكس سعي "غوغان" إلى التحرر من التقاليد الفنية الأوروبية. وتكشَّف في دعوى قضائية لاحقة أن اللوحة بيعت بـ 210 ملايين دولار لتكون في المركز الرابع.
اقرأ أيضًا: بثروة تتجاوز المليار دولار.. ما السيارات التي يقودها "تايجر وودز"؟ (فيديو)
"لاعبو الورق" The Card Players
رسم الفنان الفرنسي بول سيزان هذه اللوحة في بداية تسعينيات القرن التاسع عشر "1890 - 1895" كجزء من سلسلة مكونة من 5 لوحات تصور الطبقة الريفية الفرنسية وهم يلعبون بالورق. أجزاء السلسلة أو اللوحات الأخرى موجودة في أكثر من متحف ومؤسسة حول العالم مثل متحف دورسيه، والمتروبوليتان، ومعرض كورتولد، ومؤسسة بارنز، ولم تحظَ بنجاح "لاعبي الورق" نفسه.
هذه اللوحة "The Card Players" تُعد ثالث أغلى لوحة فنية في التاريخ، إذ بيعت مقابل 250 مليون دولار في 2011.
Interchange (300 مليون دولار)
رسمها الفنان ويليام دي كونينج في عام 1955، وتُعد واحدة من أبرز أعمال التعبيرية التجريدية. تشتهر هذه اللوحة بفرشاتها الديناميكية وألوانها النابضة بالحياة، وهي تجسد أسلوب "دي كونينج" المميز الذي يدمج العناصر التصويرية مع التجريد. لطالما كانت هذه اللوحة جزءًا من معارض ومتاحف مهمة مثل متحف الفن الحديث "MoMA" وهو ما سلط الضوء على تأثيرها الدائم في عالم الفن.
وحظيت "Interchange" بعدد من المالكين البارزين إلى أن اشتراها "كينيث سي غريفين" أيضًا، ولكن هذه المرة بـ 300 مليون دولار لتكون ثاني أغلى لوحة فنية في التاريخ.
Salvator Mundi (450 مليون دولار)
من إبداع العظيم ليوناردو دافنشي وهي اللوحة الفنية الأغلى في التاريخ. تم بيع "سلفاتور موندي" مقابل ما يزيد على الـ 450 مليون دولار بقليل في مزاد "كريستيز" في عام 2017. وكان المشتري مجهول آنذاك.
تُرجِمت "سلفاتور موندي" إلى "المُخلّص" وأثارت جدلاً واسعًا لدرجة أن البعض يشك في أن "دافنشي" هو من رسمها، مُشيرين إلى أن التكوين العام لا يتوافق وأسلوب "دافنشي". وخَلُص تحليل أجراه متحف اللوفر في 2018 إلى أن "المُخلّص" احتاجت إلى وقت طويل حتى تكتمل، مُشيرًا إلى أن اليدين والذراعين جاءت في وقتٍ متأخر من الرسمة.