"الجامي فو".. لماذا تبدو الأشياء المألوفة أحيانًا "جديدة" نراها للمرة الأولى؟
جميعنا مررنا بمواقف شَعُرنا أنها مألوفة أو أننا مررنا بها من قبل، وذلك رُغم أنها لم تحدث من الأساس. تُعرَف هذه الحالة بوهم سبق الرؤية أو "الديجافو Déjà vu"، ولكن هل سبق لك أن شعرت بالعكس؟ أي هل سبق وشعرت -على سبيل المثال- بأن وجه صديقك غير مألوف وأن المرة الخمسمائة التي تراه فيها تبدو وكأنها المرة الأولى؟ تُعرَف هذه الحالة بالـ "جامي فو- Jamais vu"، وهي حالةٌ تستحق أن نتحدث عنها.
ما هي الجامي فو؟
ببساطة شديدة، هي حالةٌ تصيب الشخص فتجعله يرى شيئًا ما مألوفًا جدًا بالنسبة إليه كما لو كان يراه للمرة الأولى. وعلى عكس ظاهرة الديجافو التي مر بها 97% من البشر وفقًا لإحدى الدراسات، فإن نسبة من مروا بالجامي فو لا تقترب منها.
وكلمة "جامي فو" نفسها هي كلمة فرنسية -مثل كلمة ديجافو- وتعني "لم أره مُسبقًا- never seen". وقبل أن تتسرع وتعتقد أنها وفقدان الذاكرة Memory loss نفس الشيء، فدعني أقل لك إنهما مختلفان تمامًا، وهذا ما يؤكده المتخصصون.
فبحسب البروفيسور كريس مولين، الحاصل على درجة الدكتوراه والباحث في علوم الذاكرة في مختبر علم النفس والإدراك العصبي بجامعة غرونوبل الفرنسية، فإن فقدان الذاكرة هو الذي يجعل المواقف أو الأشخاص غير مألوفة إليك لغياب المعلومات المُهمة التي تشكل هذه المواقف أو الأشياء، ما يعني أنك إذا رأيت شخصًا، حتى لو كان مُقربًا جدًا إليك، فإنك ستنسى هويته أو صلته بك.
على الجانب الآخر، فإن الشخص الذي يمر بحالة الجامي فو يفقد شعور الأُلفَة للحظات أو ثوانٍ معدودة فقط؛ أي أنه يَعرف هوية الشخص الذي يراه جيدًا، ولكن تعوّده على شكله لا ينفك أن يذهب عن خاطره حتى يعود سريعًا.
اقرأ أيضًا:الفرق بين الرجل والمرأة في التفكير.. معلومات قد تصدمك
ما الذي يحدث في أمخاخنا عندما نمر بالجامي فو؟
إذا دققت في السؤال، فستلاحظ أننا سألنا عمَّا يحدث بأمخاخنا عندما نمر بحالة الجامي فو، وليس عن السبب وراء حدوثها، وذلك ببساطة لأن العلم لم يقطع بعد بجواب المسألة الثانية، وحتى بالنسبة للمسألة الأولى -عما يحدث بأمخاخنا-، فلا نتملك سوى افتراضات كون الجامي فو تحدث للحظات خاطفة كما ذكرنا، ومن ثم لا يتسنى لنا استخدام الرنين المغناطيسي مثلاً لرؤية الدماغ.
من الناحية النفسية العصبية، وبحسب الدكتورة كارين سوليفان، وهي عالمة النفس العصبي والمؤسسة لبرنامج "أنا أهتم لدماغك- I CARE FOR YOUR BRAIN"، فإن حالة الجامي فو هي حالةٌ من الاستدعاء دون التذكر، أي استدعاء المواقف أو الأشخاص دون تذكرهم، وهذا يعني أنه أثناء حدوث هذه الحالة، فإن إدراكنا ينقطع عن ذاكرتنا بشكل مؤقت.
ما يحدث يكون أشبه "بالانقطاع المؤقت بين مسارات الدماغ التي عادةً ما تكون متصلةً ببعضها"، وبحسب د. سوليفان، فإن المتعارف عليه أننا نُفرّق بين المواقف الجديدة والمألوفة عن طريق سلسلة من الأحداث المتصلة ببعضها والتي تجري في منطقة "الدماغ المتوسط- Midbrain". بمجرد انقطاع هذه الاتصالات، فإن الشيء الذي نألفه جيدًا يُصبح وكأنه شي جديد علينا، وهذا ما نُعرّفه بالجامي فو.
هناك افتراضية أخرى تقول إن الجامي فو تحدث نتيجة خلل بالفص الصدغي بسبب التعب أو الإجهاد العصبي، وذلك بالإضافة إلى اختلال التوازن في الناقلات العصبية مثل الدوبامين والسيروتونين. وأخيرًا، وبحسب دكتور دونج ترينه، مؤسس موقع HealthyBrainClinic، فإن الجامي فو قد تحدث أيضًا عندما لا تولّي تركيزك الكامل للشيء الذي تألفه، ما يجعل دماغك يُصوّره مؤقتًا وكأنه غير مألوف.
تجربتان مثيرتان حول الجامي فو!
التجربة الأولى
أجرى موقع "The Conversation" تجربة مثيرة لتوضيح أثر الجامي فو على الأشخاص بطريقة مُبتكرة، حيث كان الهدف من التجربة إثبات أن كتابة كلمة ما لعدة مرات سيجعلنا نشعر شعورًا غير مألوفٍ تجاهها، حتى وإن كانت الكلمة مألوفة للغاية مثل كلمة "باب".
لاختبار صحة هذه الفرضية، أحضر القائمون على التجربة 94 مُشاركًا وطلبوا منهم أن يختاروا كلمات -مألوفة وغير مألوفة- ويكتبوها بأسرع ما يمكن، وأخبروهم أنهم يستطيعون التوقف عن الكتابة إن شعروا بالضجر أو بألمٍ جسدي أو ما إلى ذلك من الأسباب التي تستدعي التوقف.
أما عن المذهل في هذه التجربة فكانت نتائجها، إذ لم تتوقف الأغلبية العُظمى من المشاركين عن الكتابة للشعور بالألم أو بالضجر، وإنما لإحساسهم أن هناك شيئًا ما غريب تجاه الكلمة التي يكتبونها "الجامي فو"!
لك أن تتخيل أن 70% من المشاركين قد توقفوا عن الكتابة -مرة على الأقل- نتيجة لمرورهم بحالة الجامي فو، ويُذكَر أن هذه الحالة حدثت بعد عدد تكرارات وصل إلى 33 تكرار للكلمة، وأن الجامي فو كانت شائعة بشكل أكبر في حالة الكلمات الشائعة والمعروفة.
اقرأ أيضًا:الفرق بين طريقة تفكير المرأة والرجل في حل المشكلات
التجربة الثانية
في هذه المرة، اختار القائمون على الدراسة كلمة مُحددة هي الأكثر شيوعًا في اللغة الإنجليزية، وهي كلمة "The"، وكان الهدف من التجربة هو نفسه الهدف من التجربة الأولى: استحثاث ظاهرة الجامي فو عن طريق جعل المشاركين يكتبون كلمة ما بعدد تكرارات معين.
في هذه التجربة، توقف غالبية المشاركين عن الكتابة بسبب مرورهم بحالة الجامي فو، ولكن هذه المرة كانت نسبة من توقفوا 55% وكان عدد التكرارات 27 تكرارًا.
يقول مُعظم المشاركين إنهم شعروا بشيء غريب جعل الكلمات تفقد معناها وتفقد شكلها المألوف لديهم، بينما ذكر البعض الآخر أنهم شعروا بفقدان السيطرة على أيديهم أثناء حركتها، في حين أن الجزء الأخير من المشاركين قالوا شيئًا عجيبًا؛ إذ قالوا إنهم شعروا بأن الكلمة غير حقيقة أو بأن شخصًا ما يخدعهم!
الجدير بالذكر أن القائمين على الدراسة قد نوهوا بأن تجاربهم هذه كانت مستوحاة من نسج خيالهم ومن تجارب شخصية مروا بها، لا سيّما وأن أحدهم قد تذكر أنه مر بتجربة مشابهة أُجبر فيها على كتابة سطور معينة بشكل متكرر كعقاب في مدرسته الثانوية.
المثير أن الباحثين قد وجدوا تجربة مشابهة -في علم النفس- أجرتها عالمة نفس تُدعى "مارغريت فلوي واشبورن" في عام 1907. كان الهدف من تجربة "مارغريت" يتقاطع بشكلٍ أو بآخر مع التجربتين المذكورتين أعلاه، إذ أرادت عالمةُ النفس أن تختبر إمكانية حدوث ظاهرة الجامي فو، والتي وصفتها بـ "فقدان القوة الترابطية" للكلمات، عند التحديق بالكلمات واكتشفت أن هذا يحدث بعد 3 دقائق من التركيز الشديد في كلمة بعينها.
في النهاية، على الرُغم من أن ظاهرة أو حالة الجامي فو Jamais vu تُعَد واحدة من أكثر الظواهر العجيبة التي لم نجد لها تفسيرًا علميًا مُتفقًا عليه حتى الآن، إلّا أننا مسرورون لأننا قد تعرّفنا على السبب الذي يجعل وجوهًا نألفها جيدًا غير مألوفة، أو الذي يجعل كلمة ما نعتاد استخدامها -كتابةً وتحدثًا- تقع على مسامعنا وقع الشيء الذي نسمع به لأول مرة.