بعيدًا عن الخرافات.. لماذا سُمّيت "الجُمعة السوداء" بهذا الاسم؟
ينتظر الملايين حول العالم شهر نوفمبر من كل عام بفارغ الصبر حتى يقتنصوا تخفيضات "الجمعة السوداء" التي لا تُفوَّت. ففي 24 نوفمبر، من كل عام، تفتح جميع المتاجر أبوابها استعدادًا لاستقبال وابلٍ من الزبائن الباحثين عن التخفيضات. إذ تبيع المتاجر منتجاتها بالجُمَلة، ويشتري الزبائن أي شيء يعترض طريقهم، والكل يُصبح سعيدًا، فلماذا يُنعَتُ يومٌ كهذا بـ"الأسود"؟
بدايةً، يَخلُف يوم الجمعة السوداء "عيد الشكر - Thanksgiving" "سنحتاج إلى هذه المعلومة لاحقًا"، المناسبة الوطنية عند الأمريكيين والكنديين، والذين يحتفلون بها في الثالث والعشرين من نوفمبر. وتُثارُ حول تسمية "الجمعة السوداء- Black Friday" شائعات وخُرافات كثيرة بعيدة كُل البُعد عن الصواب، وإليك بعضها:
الخرافة الأولى: نسبة إلى تجارة العبيد
إحدى أشهر الخرافات التي قِيلت بحق تسمية هذا اليوم هو أنه نُعِتَ بـ"الأسود" لأن العبيد كانوا يُبَاعون في اليوم اللاحق لمناسبة عيد الشكر، أي في الرابع والعشرين من نوفمبر "يوم الجمعة السوداء"، وهذا زَعمٌ بعيد كل البعد عن المنطق، وذلك ببساطة لأن مصطلح "الجُمعة السوداء" قد زاد رواجه في ثمانينيات القرن الماضي، ناهيك أن أول استخدام له يرجع إلى ستينيات نفس القرن "كما سنعرف عندما سنأتي للحقيقة".
على الجانب الآخر، أُلغيت العبودية في الولايات المتحدة أساسًا في القرن التاسع عشر، وبالتحديد في عام 1865، أي قبل قرن كاملٍ من وجود ما يُسمَّى بـ"الجمعة السوداء". إذن، فتسمية هذا اليوم نسبةً إلى تجارة العبيد السود هو افتراء لا يمت للتاريخ بصلة.
الخرافة الثانية: نسبةً إلى انهيارات البورصة الأمريكية العديدة
مُعتَقد خاطئ آخر لدى الكثيرين ممن يظنون أن "الجُمعة السوداء" وُصِفَت بهذا اللون القاتم للإشارة إلى الانهيارات التاريخية للبورصة الأمريكية، مثل انهيار بورصة وول ستريت في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1929، بل الحقيقة إن هناك يومًا بالفعل سُمّي إثر هذا الانهيار، وكان "الثلاثاء الأسود"، فضلًا عن يوم "الإثنين الأسود" الذي سُمّي نسبةً إلى انهيار 1987.
على الرُغم من حدوث تلك الانهيارات فعلاً، بل حدوث غيرها الكثير، فإنه لا تُوجد أدلة واضحة تدعم تسمية "الجُمعة السوداء" بالتحديد نسبةً إلى أيٍّ منها، ولا ندري لما تم تداولها!
الخرافة الثالثة: تحول سجلات البيع بالتجزئة من اللون الأحمر إلى الأسود (أي من الخسارة إلى الربح)
تتحمل مُعظَم الأعمال التي تشتَغِل بنظام التجزئة، أو كما تُعرَف بالـ "Retail businesses"، خسارةً واضحة في مُعظم أيام العام، وتُحقق أرباحها فقط خلال موسم العطلات. ومن الممارسات المتعارف عليها في التعامل مع السجلات المالية في كثيرٍ من الشركات، أن الخسارة تُميَّز بالحبر الأحمر، بينما يتم تمييز الربح باللون الأسود، ويُعَد التحول من اللون الأحمر "In the red" إلى الأسود "back in the black" مؤشرًا للربح.
يحدث هذا التحول عادةً في اليوم اللاحق لعيد الشكر، أي في الرابع والعشرين من نوفمبر، وهذا اليوم -كما نعرف جميعًا- أصبح اليوم الموافق للجمعة السوداء، ولهذا نُسِبَت تسميته إلى هذه الخرافة. لماذا هي خُرافة؟ أيضًا لأنه لا يوجد دليلٌ عليها.
اقرأ أيضًا:أفضل مولات الرياض للتسوق.. بينها الفصيلية وغرناطة مول
الخرافة الرابعة: لكونه أكثر أيام التسوق ازدحامًا بالعام
على الرُغم من أن هذه الخُرافة "هي الأخيرة التي سنتناولها، ولكن هناك الكثير غيرها"، هي الأقرب للصواب، بل في الواقع مبدأها يتماشى مع الحقيقة، إلاّ أنها تظل غير حقيقية. لماذا؟ لأن -صدق أو لا تصدق- هناك أيامٌ أخرى يكون فيها التسوق أكثر ازدحامًا بكثير من السبت الذي يسبق الكريسماس، والذي يُعرَف بـ "Super Saturday".
إذن أين الحقيقة؟
تعود الحقيقة إلى أوائل ستينيات القرن الماضي، وبالتحديد في مدينة فيلاديلفيا بولاية بنسلفانيا، والتي كانت تعد بمثابة مزارٍ للسياح في اليوم الفاصل بين مناسبة عيد الشكر واليوم الذي تُقام فيه مباراة كرة قدم بين فريق من قوات الأكاديمية البحرية الأمريكية "USNA" وفريق من الأكاديمية العسكرية الأمريكية "USMA"، وعادةً ما كانت تُقام يوم السبت.
يقول المؤرّخون إن شرطة مدينة فيلاديلفيا هي التي وصفت تلك الجُمعة بـ"السوداء" لأنها كانت تضطر -في ذلك اليوم- إلى التعامل مع عددٍ جرار من الحشود، وتنظيم المرور العشوائي، فضلاً عن أن الطقس وقتها كان سيئًا للغاية.
وبينما كانت الشرطة مُنشَغلة بالسيطرة على كل هذه الفوضى، رأى أصحاب متاجر التجزئة أن تلك الظروف موائمة تمامًا لاستقطاب أكبر عددٍ من الزبائن وتحقيق الربح، ولكنهم في نفس الوقت لم يُحبوا أن يُوصَف ذلك اليوم بـ"الأسود" لأنه نذير شؤم، ويرتبط بالكثير من الأحداث الكارثية كما وضّحنا بالخرافة الثانية.
نتيجةً لذلك، حاول التُجّار أن يعيدوا تسمية اليوم، أو بلغة "البيزنس" يغيّرون علامته التجارية Rebranding، إلى "الجُمعة الكبيرة- Big Friday" وما إلى ذلك من أسماء أخرى، ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل. وفي تلك الأثناء بالمناسبة، كان مولد خرافة تحول ألوان السجلات من الأحمر إلى الأسود كدلالة على التحول من الخسارة إلى الربح، والتجار أنفسهم هُم من روجوا إلى هذه الخرافة.
الجدير بالذكر كما قلنا إن صفة "الأسود" قد التصقت باليوم، حتى وقتنا الحالي، وتعايش التُجار مع هذه الحقيقة، فتركوا أمر التسمية وركّزوا على التخفيضات وجذب أكبر عددٍ ممكن من الزبائن.
ولمّا كان الناس يتزاحمون، بل يموتون نتيجةً لهذا التزاحم، حاول التُجار أن يُقسّموا ذلك اليوم على عدة أيام حتى تتوزع أعداد الناس الغفيرة، وبالتالي تقل فرص الإصابات وما إلى ذلك، ويبدو أن الأمر قد نجح، وها نحن نرى ذلك الآن.
يوم الإثنين الإلكتروني!
لم يكن تُجار التجزئة ليتركوا فرصة التحول الرقمي واعتماد كل شيء، بما في ذلك التسوق طبعًا، على عالم الإنترنت والتكنولوجيا دون أن يستغلوها.
من هذا المُنطلق، خرجوا علينا بيومٍ جديد أصبح يُعرَف بيوم "الاثنين الإلكتروني- Cyber Monday"، والبعض يُطلق عليه يوم "إثنين الإنترنت"، وهو أول اثنين يَعقُب عيد الشكر.
هناك أقاويل بأن الاتفاق على يوم "الإثنين الإلكتروني" هذا تم كنوعٍ من التشجيع على التسوق الإلكتروني، وبصراحةٍ شديدة، وبعيدًا عن مدى صحة ادعاء هذه الأقاويل، فالحاجة إلى يوم كهذا أصبحت ماسة، لا سيّما بعد جائحة كورونا التي جعلتنا نعتمد بشكل كلي على التكنولوجيا. بل في الواقع أعتقد أن الحاجة إلى "الإثنين الإلكتروني" أصبحت تفوق الحاجة إلى "الجُمعة السوداء".
وبغض النظر عن سبب تسمية "الجُمعة السوداء" بهذا الاسم والقصص المتشعبة التي تدور حوله، لحُسن الحظ أن سبب تسمية "الإثنين الإلكتروني" بهذا الاسم واضحٌ كالشمس.