لماذا تزدهر صناعة العطور الفاخرة حتى في أوقات الأزمات؟
خرجت علينا خلال العام الماضي بيانات غير متوقعة، حول ارتفاعات كبيرة في إجمالي مبيعات العطور الراقية حول العالم، وذلك بالرغم مما شهدته تلك الفترة من ظروف صعبة، لعل في مقدمتها جائحة كوفيد 19 وما صاحبها من إغلاقات، إلا أنها وكما يبدو لم تؤثر بالسلب في شهية عشاق العطور.
وحسب بيانات مجموعة "NPD" لأبحاث السوق، شهد سوق العطور الراقية في الفترة الممتدة من يناير إلى أكتوبر الماضي 2022، على سبيل المثال، في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها مبيعات تُقدّر بنحو 4.6 مليار دولار، بزيادة قدرها 13% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق له، وبزيادة تُقدر بحوالي 56% عن مستويات عام 2019، وهي الأرقام التي لم تعززها زيادات الأسعار بقدر ما عززها الارتفاعات الحقيقية لمبيعات الوحدات بنحو 25% خلال تلك الأشهر مقارنة بما كانت عليه قبل الجائحة.
الأمر الذي طرح سؤالًا منطقيًّا حول السر وراء ذلك، مع علامة استفهام كبيرة تتساءل: لماذا تزدهر صناعة العطور الفاخرة حتى في الأزمات؟ وهو السؤال الذي ستحاول السطور التالية الإجابة عنه.
ارتفاعات غير متوقعة للطلب على العطور
حسب مجموعة "NPD"، فقد ارتفعت مبيعات العطور النسائية في النصف الأول من عام 2022، بنسبة وصلت إلى 137% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021، بينما قفزت مبيعات العطور الرجالية بنسبة 100%.
ورغم حالة الركود والتضخم التي أصابت عددًا كبيرًا من الدول، في ظل التوقعات باستمرار الانكماش الاقتصادي مع الارتفاعات المتلاحقة لتكاليف المعيشة وأسعار الطاقة والغذاء وغيرها من الضروريات إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، فإن هذا الأمر لم ينعكس بأي صورة سلبية على سوق العطور.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو أننا مازلنا ننفق الأموال على شراء السلع الفاخرة، حيث يواصل العملاء الأقل عُرضة للتأثر بالوضع الاقتصادي الحالي، تدليل أنفسهم عن طريق الإنفاق ببذخ على العطور الراقية بشكل خاص، حسب النتائج سالفة الذكر، ولكن هل يمكن التأكد من ذلك؟
يبدو أن شركة Pochet du Courval SAS الفرنسية العريقة لصناعة الزجاج، التي تقوم بتصنيع زجاجات العطور لأهم العلامات حول العالم، والتي مرت بفترات ازدهار وكساد متعددة على مدار تاريخها الطويل، قد أجابت على السؤال السابق، إذ صرح مسؤولوها التنفيذيون أنهم لم يكونوا أكثر انشغالاً مما هم عليه الآن.
وأكد "إيف بوكيه" رئيس فرع الشركة في الولايات المتحدة الأمريكية، أن الطلب قوي للغاية لدرجة أنهم لا يستطيعون مواكبته.
وأضاف: "قمنا بتسليم 270 مليون قارورة عطر زجاجية وجرة تجميل هذا العام"، وهو رقم قياسي للشركة التي يبلغ عمرها 400 عام، والتي تقدم نفسها كمنتج لأول زجاجة صممها صانع عطور في عام 1853 لصالح علامة "غيرلان".
اقرأ أيضًا:أغلى 10 عطور في العالم للرجال تمنحك فخامة استثنائية
جائحة كوفيد لم تمنع الإقبال على شراء العطور
وحسب خبراء الاقتصاد فقد بدأت المبيعات العالمية للعطور الفاخرة في الارتفاع خلال جائحة كوفيد 19، وتزايدت قوتها خلال العام الماضي 2022، فيما يبدو أن الطلب ما يزال صامدًا بينما تباطأت مبيعات السلع الفاخرة الأخرى، وهو ما طرح نقاشات بين المحللين والمديرين التنفيذيين لشركات التجميل حول ما إذا كان الزخم سيستمر أم سيبدأ في التلاشي مثل ومضات الرغبات الاستهلاكية المكبوتة.
ولكن مع استمرار النمو على مدار ثلاث سنوات تقريبًا، اكتشف هؤلاء نموًّا حقيقيًّا مع انضمام أعداد كبيرة من المستهلكين الجدد، الذين اكتسبوا اهتمامًا خاصًّا بالعطور خلال هذه الفترة، بينما يتوقع استمرار الطلب بشكل قوي على هذه النوعية من المنتجات الراقية، التي تحولت من كونها هدية متعارف عليها، إلى أداة لإنعاش الحواس تم دمجها بشكل كبير في إجراءات العناية الشخصية، إذ أصبح المستهلكون ينظرون إلى العطور باعتبارها مشابهة لمستحضرات العناية بالبشرة، التي هي جزء من الممارسات المعتادة لتعزيز عافيتهم بشكل عام، وليس بوصفها ترفًا أو إسرافًا.
أسباب مرجحة لازدهار سوق العطور
يعتقد بعض المتابعين أن تحول المتسوقين إلى العطور في أثناء الجائحة، ربما يعود لكونها نوعًا من أنشطة الرفاهية التي يمكن الوصول إليها، واستخدامها يوميًا حتى لو كانوا عالقين داخل منازلهم، وربما لنفس السبب شهدت مبيعات منتجات العطور المنزلية كالشموع، وأجهزة توزيع الروائح زيادة ملحوظة خلال العامين الماضيين، خاصة تلك العطور المستوحاة من الوجهات البعيدة.
وحسب علماء النفس فإنه يمكن للرائحة أن تحمل الكثير من المعاني للأشخاص، بوصفها وسيلة نقل وتخزين للذكريات، وكذلك لتحسين الحالة المزاجية، بينما يمكن لمنتجات الرفاهية والعناية الشخصية رفع الروح المعنوية في الأوقات المضطربة.
كما تثبت الدراسات السريرية أن بعض الروائح تحفز بشكل مباشر أجزاء مختلفة من الدماغ، ما يثير مشاعر مختلفة تنسجم مع تلك العطور التي تُستخدم كشكلٍ من أشكال التعبير عن الذات.
ويبدو أن كثيرين حول العالم أدركوا ذلك المعنى، ما جعلهم يفكرون في شراء العطور بالطريقة نفسها التي يفكرون بها في شراء أي إكسسوارات أخرى، حيث يخصصون لها ميزانية مساوية لأحذيتهم أو حقائبهم، إذ لا يتعلق الأمر فقط بالعطر الذي يجعل رائحتهم جميلة، أو يعكس نمط حياة معين، بل يعكس ما يشعر به الشخص نفسه.
اقرأ أيضًا:عطور "جيرلان" الرجالية.. 190 عامًا من الأصالة والإبداع
ومع انتهاء الإغلاقات، وعودة الحياة الاجتماعية، ومن ثم عودة الانخراط في المناسبات بما يلزمها من تأنق، برزت العطور عالية الجودة كجزء ضروري من المشهد، وهو الأمر الذي تدل عليه الأرقام التي تظهر أن إنفاقنا زاد ليس فقط على العطور، ولكن على الكماليات في جميع المجالات بمجرد رفع الإغلاقات.
يضاف إلى كل ذلك تنامي ثقافة التجربة قبل الشراء، التي سمحت لمحبي العطور باختبار نسخ مقلدة منها قبل شراء النسخ الأصلية.
والحقيقة أن هناك أعدادًا متزايدة من الشركات الشهيرة التي تخصصت في ذلك، الأمر الذي أدى إلى زيادة شعبية بعض هذه العطور، ومن ثم ارتفاع حجم الطلب على نسخها الأصلية أيضًا، ما يعني أن النسخ المقلدة تقدم في الواقع المساعدة للعطور الأصلية على المدى الطويل.
كما أن هناك أسبابًا أخرى لازدهار سوق العطور، منها على سبيل المثال دخول الصين إلى مضمار الاستهلاك، فحسب إحصاءات Euromonitor International لأبحاث السوق، فإن 3% فقط من سكان الصين يستخدمون العطور، بينما يُعتقد أن هناك اتجاهًا صعوديًا هائلاً للعطور، وبالنسبة للعديد من خبراء الصناعة فإن زيادة الإنفاق على السلع الفاخرة عمومًا، ورغم أنها غير متوقعة، فإنّها لا تشكل ظاهرة جديدة، فقد سبق وأن تحدث "ليونارد لودر" رئيس مجلس إدارة شركة إستي لودر Estée Lauder، حول مبيعات أحمر الشفاه التي ارتفعت على الرغم من بقاء معظم الناس في منازلهم، وهو ما أُطلق عليه مصطلح "مؤشر أحمر الشفاه" الذي يشير إلى الزيادة في مبيعات مستحضرات التجميل الفاخرة خلال أوقات الركود الاقتصادي، وهي ظاهرة كثيرًا ما أثارت الخبراء على مر السنين.
والحقيقة أيضًا أن البعض يعتقد أن الطلب على العطور، وعلى الرغم من قوته الأخيرة، قد يكون بين منتجات التجميل الأولى التي تتلقى ضربة كلما ارتفع التضخم وتضاءلت المدخرات، حيث سيضحي المستهلكون بالمشتريات غير الضرورية، أو يتحولون إلى بدائل أرخص، وهي الأزمة التي قد تتفاعل بشكل أو بآخر مع ما تواجهه الصناعة من عقبات، كسلاسل التوريد التي يمكن أن تؤدي بدورها إلى إبطاء وتيرة النمو، ومن ثم ارتفاع الأسعار وكذلك صعوبة مواكبة الطلب المرتفع، والذي يبدو أنه لن يتوقف كلما ازدادت شهيتنا للحياة برفاهية طالما نستطيع.