محمد نصار يكتب: كوابيس الذكاء الاصطناعي
عندما كنت في المرحلة الإعدادية انتشرت الآلات الحاسبة المتطورة بكثرة، وكان أساتذتنا يحذروننا منها بشدة، فهي في ظنهم "تجمد المخ.. تجعل عقلك كسولاً لقلة اعتمادك عليه".
في حينها وبناء على دراسة أجريتها على نفسي بعد عام من استخدام الآلة الحاسبة وجدت أني أصبحت أقل قدرة على إجراء عمليات حسابية اعتيادية.
مرت السنوات والتكنولوجيا لم تكف عن إبهارنا، وفي عام 2005 كنّا ننعطف تكنولوجيًّا على وقع إرشادات خرائط جوجل، المرافق الافتراضي الجديد الذي أنقذنا من تيه الطرقات وتعقيداتها.
لكننا أصبحنا نعتمد عليه أحيانًا للوصول إلى وجهة نزورها للمرة العاشرة، بل جعلنا في أحيان كثيرة نشعر بصعوبة التحرك من دونه، وهذا بناء على دراسة أجريت عام 2017.
حيث وجد باحثون أن الأشخاص الذين يستعينون بنظام تحديد المواقع يعطلون عمل أجزاء من المخ في أثناء ذلك، وبحسب دورية "نيتشر كوميونيكيشن" المرموقة فإنه عندما اعتمد متطوعون في الدراسة على أنفسهم لبلوغ وجهاتهم كان لديهم زيادة في أنشطة الحُصين Hippocampus (منطقة من المخ مرتبطة بالتعلم والذاكرة الطويلة والإبداع والتخيل وحل المشكلات) والقشرة الأمامية التي تغطي الفص الجبهي.
لكن هذا لم يحدث في أثناء استخدام نظام تحديد المواقع.
القائمون على الدراسة قالوا: "عندما تكون هناك تكنولوجيا تخبرنا أي طريق نسلك… سنصبح على المدى البعيد أقل قدرة على التعلم وتحديد الاتجاهات دون مساعدة".
حسنًا ماذا لو أن التكنولوجيا الذكية تلك لم تخبرنا فقط أي طريق نسلك وإنما قامت بإنجاز رسائلنا الأكاديمية ومقالاتنا الصحفية وتحليلاتنا المالية وتصاميم منازلنا، وكلمات الأغنيات وألحانها… وقائمة لا تنتهي من المهام، فما الذي سيتعطل لدينا؟
في نوفمبر الماضي، كان العالم أمام فتح جديد مذهل في مجال ما يعرف بتعليم الآلة العميق، إذ أطلق مركز أبحاث الذكاء الاصطناعي "أوبن أي آي" (OpenAI) روبوت الدردشة "Chat gpt" الذي يتميز عن أسلافه من روبوتات الدردشة بقدرته الفائقة والفورية على شرح مفاهيم معقدة بجمل بسيطة منطقية وسليمة، دون الاقتباس من مصادر أخرى، وفوق كل ذلك يعلم نفسه بنفسه، فالخوارزمية التي تديره تُنتج جُمَلًا مكتوبة يجري توليدها إحصائيًّا بالاعتماد على البيانات هائلة الضخامة، لدرجة يصعب أن تميزه عن صديقك الذي تتحدث معه.
اقرأ أيضًا: محمد نصار يكتب: مَنْ يقود سيارة حياتك؟
100مليون مستخدم نشط شهريًّا لـ"Chat gpt" في يناير، أي بعد شهرين من إطلاقه، ما يجعله التطبيق الأسرع نموًّا في التاريخ وفقًا لدراسة نشرها "يو.بي.إس"، وفي ذلك - لا شك - دلالة واضحة على أن البشرية كانت بانتظار شيء كهذا، ومن منا لن يغريه أن يقوم هذا الساحر بجل ما نبذل جهدًا ووقتًا لإنجازه يوميًّا. فهل يتحول من معين لا ضرر منه إلى إدمان لا مفر منه؟
وبالاتجاه نفسه، هل يؤدي الاعتماد المتنامي على الذكاء الاصطناعي إلى الحد من قدرة البشرية على الخلق والإبداع؟ وهل سيزيد قصورنا في اجتراح الحلول لمشكلات وتعقيدات كبرى طارئة؟ ويغدو كالهاتف الجوال الذي يتعذر علينا أن نتحرك من دونه وخرائط جوجل التي يشعرنا غيابها بالعمى الجزئي، هل يصل الذكاء الاصطناعي ونماذجه اللغوية كـ"Chat gpt" إلى مرحلة يستحيل فيها أن نقرر من دونه؟
هل يعمل انتشار هذا الذكاء الآلي لإقالة العقل وتغليب النقل؟ كيف لا نخشى الأسوأ كأفراد وقد سبقتنا الحكومات إلى ذلك، ونحن نرى أنه يكاد يحدث نوع من المساواة بين فنان مبدع وآخر لا يفقه في الفن شيئًا؟ ولو تعمقت أكثر في ما يقدمه سيل من هذه التطبيقات الذكية لأدركت مدى مشروعية سؤالي.
لكن أعود لأسأل فربما يكون السؤال أهم من الإجابة في هذا المقام الذي يبدو فيه المستقبل مفعمًا بالضباب، وعلى اعتبار أن روبوتات الدردشة الذكية تنهل من معين واحد تصب فيه أحجام هائلة من البيانات الكبيرة Big data فهل تكون الأفكار الأصيلة المبدعة، الأفكار التي توصف بأنها من خارج الصندوق، هي المتضرر الأول لأن عقلاً واحدًا -مهما اتسع وتشعب وتوالد- سيفكر عن كل البشر، تغذيه داتا يغرف منها الكوكب بأسره؟
ومن ثم هل سنعاني في السنوات القادمة أفكارًا متكررة متشابهة كونها تتناسل من مصدر واحد؟
تخيلوا أن جواب Chat gpt على هذا السؤال كان كالآتي: الذكاء الاصطناعي يمكنه إنتاج نتائج تقليدية وتكرارية، ولا يُعد ذلك إبداعًا حقيقيًّا، وقد يؤدي الاعتماد الزائد عليه إلى فقدان التفكير الناقد والقدرة على الابتكار والتفكير الجانبي، والتعامل مع الحالات غير المتوقعة بشكل فعال.
لكن تعالوا نقر أن الذكاء الاصطناعي بكل أذرعه واستطالاته لم يبدأ قبل عقود ليتوقف الآن، والتطور لن يلجمه كل تلك المخاوف، سنهضم الصدمة بشكل من الأشكال، ربما تتسع الهوة بين من يواكب ومن لا يواكب من المجتمعات والأفراد، ولكن بلا شك نحن أمام منعطف جديد هائل الانزلاق والوعورة سيفتح آفاقًا جديدة، لا أحد قادر على التكهن بها.
فإذا كان استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي قادرًا على خلق نوع من المساواة بين فنان مبدع وآخر لا يفقه في الفن شيئًا، فإن ذلك الفنان لو تمكّن من دمج إبداعه بذكاء الآلة فلن يسبقه أحد ولن يدانيه مستسهل.
لذلك إذا كنت تعمل في مجال إبداعي فحافظ على اتقاد شعلة الإبداع في نفسك وواكب بقوة كل تقنية تمنح إبداعك أبعادًا جديدة، لأن المعطيات تشير إلى أن أمثالك مرشحون ليكونوا عملة نادرة في قادم السنوات مع مزيد من اعتماد البشر على أفكار متشابهة تقدمها الآلة الذكية للجميع ولكن بصياغات مختلفة.
وكما أن التليسكوب يعد استطالة للعين فأنت ترى بها وليس به، كذلك الذكاء الاصطناعي سيمنح استطالات للذكاء البيولوجي ويفتح أمامنا أبوابًا جديدة.. أو على الأقل هكذا نأمل.