الحجاج بن يوسف الثقفي: وال بارع وخطيب مفوه أم أظلم أهل الأرض؟
اشتهر الحجاج بن يوسف الثقفي في التاريخ العربي والإسلامي خصوصًا في فترة الأمويين لما له من باع على استقرار الدولة الأموية. وكان مما اشتهر به الفصاحة والبلاغة وكذلك الظلم والدموية، فما قصة الحجاج بن يوسف الثقفي؟
قصة الحجاج بن يوسف الثقفي كاملة
ولد الحجاج بن يوسف الثقفي عام 661 م، أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ثلاثين عامًا. وهو ابن عائلة كريمة من عائلات ثقيف، كان والده محبًا للعلم والآداب ومعلمًا للقرآن الكريم لأبناء الطائف دون تلقي أجر.
حفظ الحجاج كتاب الله على يد والده، وولج حلقات كبار الصحابة والتابعين أمثال: عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.
اشترك مع والده في تعليم الصبيان، وكان لتعلم القرآن وتعليمه الأثر الكبير على فصاحته وخطابته خاصة أنه اتصل بقبيلة هذيل التي كانت تُعدُّ أفصح العرب، وقال عنه أبو عمرو بن العلاء: "ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج".
انتقل إلى الشام فلحق بـ"روح بن زنباع" صاحب الشرطة أيام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وكان "روح" من المقربين للخليفة وممن يستمع إليهم، فكان هو سبب تقديمه للخليفة وأول من تنبأ بذكاء الحجاج بن يوسف الثقفي ومهارته القيادية، ثم ما زال الحجاج يظهر حتى قال عبد الملك عنه: "الحجاج هو جلدة ما بين عينيّ".
قلده عبد الملك أمر العسكر، وأمره بقِتالِ عبد الله بن الزبير، فزحف إلى الحجاز بجيشٍ كبيرٍ وقتل عبد الله بن الزبير وفرَّق جموعه، فكان أن ولاَّه عبدُ الملك مكة والمدينة والطائف.
أضاف إليه العراق الذي كانت الثورة قائمة فيه، فانصرف إلى الكوفة وخطب فيهم خطبته العصماء الشهيرة التي قال فيها "إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها"، فقمع الثورة وثبتت له الإمارة عشرين سنة. وبنى فيه مدينة واسط وبها مات.
احتل الحجاج شهرة كبيرة بين ولاة المسلمين، بل إنهما شهرتان في حقيقة الأمر، شهرة الوالي والقيادي البارع والخطيب المفوّه، وشهرة صورة الولاة الظالمين الطغاة، بل يراه البعض صورة مجسمة للظلم والطغيان.
إصلاحات الحجاج الإدارية والعمرانية
- بنى مدينة واسط، واتخذها عاصمة له.
- أعاد حفر قنوات الماء التي طُمرت في الحروب والمعارك.
- حد الموازين والمكاييل.
- حوّل لغة دواوين الحكومة من اللغة الفهلوية (الفارسية القديمة) إلى اللغة العربية.
- سك العملة باللغة العربية.
- نظم عمل الجيش، وجعل خدمة الوطن إجباريّة.
- أرسل الجيوش لفتح المشرق، وتحت إمرته فُتحت بلخ، وطخارستان، وفرغانة وهي مناطق تقع في وسط قارة آسيا، وفي غرب الهند فتحت جيوش الحجاج منطقة السند، ثم تمكنت من الوصول إلى كاشغر الواقعة على حدود دولة الصين.
ويروى عنه أنه كان حريصًا على الجهاد، وفتح البلاد، وتميّز بإعطائه المال إلى أهل القرآن؛ إذ كان يُنفق الكثير من أمواله على حفظة القرآن، وعندما مات لم يُخلّف وراءه إلّا 300 درهم.
ظلم الحجاج ودمويته
روي أنه حاصر مكة المشرفة، وضربها بالمنجنيق دون مراعاة لحرمتها وقداستها؛ حتى تهدمت بعض أجزاء من الكعبة، وانتهى القتال باستشهاد ابن الزبير والقضاء على دولته، وأنه حز رأس ابن الزبير وصلب جسده، وهو من هو، صحبته للنبي وبنوته للزبير بن العوام وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
طرائف الحجاج بن يوسف الثقفي
من الطرائف التي تروى عن الحجاج أنه حكم على أحد الرجال بالقتل، فذهبت الشرطة لداره فلم يجدوه، فأخذوا أخاه، وهدموا داره، ومنعوا عطاءَه، وحبسوه في بلده فلا يخرج منها إلى سفر أبدًا، فذهب إلى الحجاج يشتكي، فقال:
منعوا عطائي، وهدموا داري، وحبسوني في بلدي، وليست لي جناية، إنما المذنب أخي.
فقال الحجاج:
أما سمعت قول القائل:
جانيك من يجني عليك وربما
تُعْدِي الصِّحَاحَ مَبارِكُ الجُرْبِ
وَلَرُبَّ مَأْخُوذٍ بذنبِ عَشِيرةٍ
وَنَجَا الُمَقارِفُ صَاِحبُ الذَّنْبِ
فقال الرجل:
لكني سمعت الله يقول غير ذلك.
فقال الحجاج:
وماذا يقول الله؟
فقال: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿78﴾ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ﴿79﴾
فأطرق الحجاج صامتًا ثم قال: إليَّ بيزيد بن أبي مسلم (قائد الشرطة)، فلما أتاه قال له: مُرْ له بعطاء، وابن له داره، وافكك عن اسمه، ومر مناديًا ينادي في الناس أن صدق الله وكذب الشاعر.
نوادر الحجاج بن يوسف الثقفي ومواقفه
عن أبي بكر بن أبي خيثمة عن بحر بن أيوب عن عبد الله بن كثير قال : صلى الحجاج مرة بجانب سعيد بن المسيب قبل أن يكون الحجاج ذا منصب وسلطة فجعل يرفع قبل الإمام ويقع قبله في السجود. فلما سلم أخذ سعيد بطرف ردائه –وكان له ذكر بعد الصلاة_ ، فما زال الحجاج ينازعه بردائه، حتى قضى سعيد ذكره. ثم أقبل عليه سعيد فقال له: «يا سارق، يا خائن. تصلي هذه الصلاة؟ فوالله لقد هممت أن أضرب بهذا النعل وجهك». فلم يرد عليه. ثم مضى الحجاج إلى الحج، فعاد إلى الشام. ثم جاء نائبًا على الحجاز. فلما قتل ابن الزبير، كر راجعًا إلى المدينة نائبًا عليها. فلما دخل المسجد، إذا مجلس سعيد بن المسيب. فقصده الحجاج، فخشي الناس على سعيد منه. فجاء حتى جلس بين يديه، فقال له: «أنت صاحب الكلمات؟». فضرب سعيد صدره بيده وقال: «نعم». قال: «فجزاك الله من معلم ومؤدب خيرًا. وما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك». ثم قام ومضى.
للحجاج بن يوسف الثقفي الكثير من النوادر والقصص التي ذاع صيتها بين العرب وتداولها الناس في عصره وبعد وفاته شاهدًا على بلاغته وخطابته ودليلاً على بطشه أيضًا، منها قصته مع أهل العراق حين وروده على الكوفة.
الحجاج وأهل العراق
هذه القصة من أشهر قصص الحجاج في التاريخ وهذه عندما استلم ولاية العراق قيل للناس هذا الحجاج بن يوسف قد قدم أميرًا على العراق، فدخل الحجاج بعدها متسلحًا بسيفه وصعد للمنبر وظل لساعة لا يتكلم ولا يهمس حتى تهامس الناس فقال أنا ابن جلا وطلاع الثنايا… متى أضع العمامة تعرفوني.
وبعد ذلك ألقى خطبته الشهيرة وهي كتالي: والله يا أهل الكوفة والعراق إني لأرى رؤوسًا قد أينعتْ وحانَ قطافُها وإني لصاحبُها، وكأنِّي أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، وإنَّ أمير المؤمنين نثرَ كنانتَهُ فعجمَ عيدانَها فوجدني أمرها عودًا وأصلبها مكسرًا. ورماكم بي لأنَّكم طال ما وضعتم في الفتنة واضطجعت في مراقد الضَّلال، والله لأحزمنكم حزمَ السلمة وأضربكم ضربَ غرائِبِ الإبل، ثم قال: فإنكم كأهلِ {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}. والله إنَّي ما أقول إلا وفَّيتُ ولا أهمُّ إلا أمضيتُ ولا أخلقُ إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائك أعطيتكم وأن أوجِّهكم لمحاربة عدوِّكم مع المهلب بن أبي صفرة.
وإنِّي أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلفَ بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربتُ عنقَه؛ يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، فقال الغلام: سلامٌ عليكم، فلم يقلْ أحدٌ شيئًا. فقال الحجاج: اكف يا غلام، ثم أقبل على الناس، فقال: يسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردُّوا عليه شيئًا؟ هذا أدب ابن نهية، أما والله ليؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن، اقرأ عليهم يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلَغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السَّلام، ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم.
كيف مات الحجاج بن يوسف الثقفي؟
مرض الحجاج مرضًا غريبًا يحكى عنه المؤرخون الثقاة كابن خلكان بأنه كان بالأكلة وقعت في بطنه، وكانت وفاته في رمضان أو شوال سنة 95 في عهد الوليد بن عبد الملك، ولمّا مات لم يعلم أحد بموته حتى أشرفت جارية فأعلنتها أمام أهل واسط وقالت «ألا إن مطعم الطعام، ومُيتم الأيتام، ومُرمل النساء، ومفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات»، وكان قد أوصى يزيد بن أبي مسلم أن يُدفن سرًا وأن يخفي موضع قبره، لئلا يتعرض للنبش.
دُفن في قبر غير معروف المحلة في واسط، فتفجع عليه الوليد، وجاء إليه الناس من كل الأمصار يعزونه في موته، وكان يقول: كان أبي يقول إن الحجاج جلدة ما بين عينيه، أما أنا فأقول أنه جلدة وجهي كله.
ما قيل في الحجاج
قال الذهبي:
|
أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلا، وكان ظلوماً جباراً خبيثا سافكا للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن، قد سُقت من سوء سيرته في تاريخي الكبير، وحصاره لابن الزبير بالكعبة ورميه إياها بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبُّه ولا نحبه، بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء |
|
قال الجصاص:
|
ولم يكن في العرب ولا آل مروان أظلم ولا أكفر ولا أفجر من عبدالملك ولم يكن في عماله أكفر ولا أظلم ولا أفجر من الحجاج وكان عبدالملك أول من قطع ألسنة الناس في الأمر بالمعروف |
|
قال ابن كثير :
|
كان فيه شهامة عظيمة وفي سيفه رهق (رهق للدماء بهلاك وظلم)، وكان يغضب غضب الملوكِ، وقال أيضًا: وكان جبارًا عنيدًا مقدامًا على سفك الدماء بأدنى شبهة، وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها ولكن يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه، وكان يكثر من تلاوة القرآن ويتجنب المحارم، ولم يُشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعًا في سفك الدماء. فلا نكفر الحجاج، ولا نمدحه، ولا نسبه، لكن نبغضه في الله بتعديه على بعض حدود الله وأحكامه، وأمره إلى الله. |
|
الحجاج في الأدب والدراما
أنتج عنه مسلسل درامي تاريخي باسم الحجاج من إنتاج المركز العربي للإنتاج الإعلامي - الأردن، عام 2003، كتبه جمال أبو حمدان، وأخرجه محمد عزيزية، وكانت أدوار البطولة لعابد فهد في دور الحجاج، وسوزان نجم الدين في دور هند بنت المهلب، وغيرهما من النجوم.
يعرض المسلسل قصة الحجاج بن يوسف الثقفي، كصاحب الشخصية القيادية والتاريخية المميزة التي أثارت حوله عاصفة من الآراء المتناقضة في فترة من أكثر فترات التاريخ عصفًا بالأحداث.
ووصف بطاغية العرب والسيف المسلط على مناوئي الدولة الأموية، وأسماه المؤرخون بكثير من الألقاب منها رجل المهمات الصعبة ورجل الأقدار ومسيّر الفتوح إلى أقاصي الأرض ورجل الدولة الداهية.
تأرجحت سيرته ما بين شدته وقسوته وبطشه بالأعداء ومثيري الفتن، وبين لينه وولائه للخلافة الأموية وطاعته لرأسها، ورغم حيرة التاريخ في رسم صورتها، فقد تركت شخصية الحجاج أثرها البالغ في التاريخ العربي الإسلامي، وبقيت سيرته حية عبر الزمن كشخصية غيرت وجه التاريخ في زمنها.