الاقتصاد السلوكي: لماذا لا تتبع سلوكيات البشر توقعات النماذج الاقتصادية؟
بدأت جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1969، ومنذ ذلك الحين، بلغ معدل الحاصلين عليها من المنتمين لعلم الاقتصاد السلوكي حوالي 6٪ من إجمالي الحاصلين عليها في الاقتصاد، ومن هؤلاء: «جورج أكيرلوف» و«روبرت فوجل» و«دانيال كانمان» و«إلينور أوستورم» و«روبرت شيلر» و»ريتشارد ثالر» بالإضافة إلى الثنائي الاقتصادي «أبهيجيت ف. بانيرجي» وزوجته «إستير دوفلو» عام 2019.
قد تبدو لك نسبة العلماء الاقتصاديين الحاصلين على جائزة نوبل لجهودهم في علم الاقتصاد السلوكي ضئيلة جدًا بالمقارنة بنسبة من حصلوا عليها في فروع الاقتصاد الأخرى، لكن الملحوظة الأهم، تؤكد على أنه قد تم منح جميع هذه الجوائز الاقتصادية في الألفية الجديدة، مما يعكس الرؤية المتزايدة لدور الاقتصاد السلوكي في العلوم والسياسة خلال العقود الأخيرة.
ما هو الاقتصاد السلوكي؟
منذ اللحظة التي نستيقظ فيها، نواجه عددا كبيرا من القرارات، مثل: ما الذي نشتريه اليوم، كيف نقضي عطلة نهاية الأسبوع، أي سيارة نشتريها، كيف نستثمر أموالنا، ما المسار الوظيفي الذي نتبعه، ما هو برنامج الدراسات العليا الأنسب لنا.. معظم الوقت نتخذ القرارات بشكل مستمر، سواء كانت قرارات ناجحة أو أقل من المتوقع، إلا أننا نادرًا ما نفكر في العملية الفعلية لصنع القرار، وشكل الحياة إذا كان بإمكاننا وضع أيدينا على أدوات اتخاذ القرار! هنا يأتي دور الاقتصاد السلوكي الذي يوفر هذا الاحتمال.
يسلط «Behavioral Economics - الاقتصاد السلوكي» أو المعروف اختصارًا بالـ (BE) الضوء على واحدة من أهم الأنشطة الأساسية للوجود البشري: عملية اتخاذ القرار. فهو يقوم على الدمج بين علم الاقتصاد وعلم النفس البشري والدراسات السيكولوجية وعلم الاجتماع وعلم الأعصاب، بهدف إعادة بناء الاقتصاد على أسس جديدة أكثر واقعية، توفر رؤية قيّمة للأسباب التي تجعل الأفراد لا يتصرفون بشكل يخدم ويعظم مصلحتهم الشخصية، لتوليد فهم أكثر دقة للسلوك البشري، وذلك بغرض فهم سبب انحراف الأفراد عن اتخاذ الإجراءات العقلانية الرشيدة ضمن عملية صنع القرار الاقتصادي.
وبهذا يحاول علم الاقتصاد السلوكي دمج فهم علماء النفس للسلوك البشري في التحليل الاقتصادي، لتفسير سبب اختيار الفرد للخيار A ، بدلاً من الخيار B. وهو في هذا الصدد، يوازي علم الاقتصاد السلوكي مع علم النفس المعرفي، الذي يحاول توجيه الأفراد نحو سلوكيات أكثر صحة من خلال تصحيح الحواجز المعرفية والعاطفية لتحقيق المصلحة الذاتية الحقيقية.
وبهذا، يحدد علم الاقتصاد السلوكي العديد من التحيزات البشرية أو الميول السلوكية التي تؤثر على قراراتنا، وأحيانًا خارج نطاق وعينا، ويستخدم في تفسير معظم القرارات اليومية، مثل: (ما يشتريه الأفراد، وكيف يديرون شؤونهم المالية، وما إذا كانوا يتخذون خيارات أسلوب حياة صحية أم لا)، حيث يعمل على خلق بيئات وظروف ومحفزات تدفع الأفراد نحو اتخاذ قرارات أكثر حكمة ورشدا اقتصاديا وحياة أكثر صحة، وكذلك يوفر إطار عمل لفهم: «متى وكيف يرتكب الأفراد الأخطاء»، لأن الأخطاء أو التحيزات المنهجية أو سقطات الحكم الشخصي تتكرر بشكل متوقع في ظروف معينة.
الاقتصاد الكلاسيكي vs الاقتصاد السلوكي
بدأ مجال الدراسة المعروف باسم الاقتصاد السلوكي كمحاولة أكاديمية بحتة لنمذجة اختيارات المستهلك غير العقلانية، وبالتالي تحدي فكرة المستهلك العقلاني القائم عليها فكر الاقتصاد الكلاسيكي. فقد اختلف علم الاقتصاد لفترة طويلة عن التخصصات الأخرى في اعتقاده القائل: «إن معظم -إن لم يكن كل- السلوك البشري يمكن تفسيره بسهولة، من خلال الاعتماد على افتراض أن تفضيلات الأفراد محددة جيدًا ومستقرة عبر الزمن وعقلانية أيضًا».
بحسب الفكر الاقتصادي الكلاسيكي يتبنى معظم الأفراد المنفعة العقلانية، وتكون الاستنتاجات والقرارات على أساس المعلومات المثالية المتوفرة، حيث يعتبر -بشكل مفروغ منه- أنهم يتخذون قرارات عقلانية باستمرار، ويعملون بدأب للبحث عن الخيارات المثلى، وأن الأفراد لديهم من المعرفة والموارد المعلوماتية والوقت قدر غير محدود، بما ينتهي بهم دائمًا إلى اتخاذ الاختيار الرشيد.
حيث تشرح النظرية الاقتصادية الكلاسيكية كيف يتخذ الأفراد القرارات عندما يكون متاحا لديهم جميع المعلومات الممكن توافرها، ويمكن أن يستغرقوا وقتًا للتفكير بعقلانية في خياراتهم، حيث يتوقع نموذج القرار العقلاني النابع من فكر الاقتصاد الكلاسيكي: «أن الفرد يزن ويقارن بين فوائد وعيوب القرار الذي بصدد اتخاذه، ثم يختار الخيار/البديل الأمثل الذي يعظم منفعته/مصلحته الشخصية». ومع ذلك، هذا ليس هو الحال دائمًا، حيث يتميز البشر بعقلانية محدودة، وقوة إرادة محدودة ومصلحة ذاتية محدودة الإيثار، مع وجود القيود المعرفية وتفضيلات الحكم الشخصي، بل وأحيانًا يقومون بتبني خيارات تتعارض مع مصالحهم الخاصة.
فغالبًا ما تكون الخيارات في العالم الحقيقي محدودة بالمواعيد النهائية وعدم اليقين والمخاطر، مما يؤدي إلى سلوك قد يبدو غير منطقي خارج السياق. لقد تم التأكد جيدًا من أن البشر في الواقع لا عقلانيين تمامًا عند اتخاذ الخيارات التي تشكل سلوكهم الاستهلاكي.
جهود العلماء
لطالما كان فهم الأسباب العقلانية والأساس المنطقي، الذي يقف وراء اتخاذ قرارات الأفراد (سواء كانوا مستثمرين، منتجين، مستهلكين)، هو الهاجس الأكبر الذي يؤرق أفضل الاقتصاديين والإداريين والمسوِّقين وأصحاب الشركات في العالم، هذا هو السبب في أن فهم الاقتصاد السلوكي كعلم لصنع القرار والنظر في السلوك البشري أمر لا بد منه.
البداية كانت في القرن الثامن عشر، فقد كان الاقتصادي الشهير «Adam Smith - آدم سميث»، والمعروف بأبو الاقتصاد، أول من أشار في كتابه المنشور عام 1759، تحت عنوان: «The Theory of Moral Sentiments - نظرية المشاعر الأخلاقية»، إلى أهمية دراسة سلوك الأفراد من جانب علم النفس، مع وضعها تحت نظر الاقتصاديين للفحص والتحليل وقراءة النتائج، حيث إن سلوكيات الأفراد غير عقلانية وتؤثر على حركة الاقتصاد، ويمكن أن تترجم في شكل تذبذبات في الأسواق العالمية، لكن حينها تم تجاهل حديثه في تلك النقطة.
واستمر الفكر الاقتصادي في تجاهل هذا الموضوع، حتى حدد الاقتصادي «Gary Becker - غاري بيكر» في كتابه «The Economic Approach to Human Behavior - النهج الاقتصادي للسلوك البشري»، المنشور لأول مرة عام 1976، عددًا من الأفكار المعروفة بما يسمى نظرية «Rational Choice - الاختيار العقلاني» والقائمة على أن البشر لديهم تفضيلات مستقرة تشارك في تعظيم السلوك.
فيفترض «بيكر» أن «Rational Man - الرجل العقلاني» يزن التكاليف والمنافع وراء كل خيار/بديل متاح بشكل صحيح، ويحسب أفضل الخيارات لنفسه، ويعرف تفضيلاته (الحالية والمستقبلية)، ولا يتقلب أبدًا بين رغبتين متناقضتين، ولديه تحكم كامل في النفس، ولا يتأثر بالعواطف والعوامل الخارجية، وقادر على اتخاذ قرارات عقلانية، ويمكنه كبح الدوافع التي قد تمنعه من تحقيق أهدافه طويلة المدى، ومع ذلك شهد نهاية عقد السبعينيات بدايات التدفق المعاكس لهذا التفكير.
فمن بعده ابتكر الاقتصادي الأمريكي وعلم النفس المعرفي، «Herbert A. Simon - هربرت أ. سيمون»، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد 1978، نظرية «Rationality Bounded - العقلانية المقيدة»، ووضعها ضمن كتابه الأشهر «السلوك الإداري»، وشرح كيف أن عقلانية الناس محدودة بالإطار الزمني، وبمقدار مواردهم المعرفية، ومستوى صعوبة القرار، فنجد صناع القرار يعملون في كثير من الأحيان انطلاقًا من مبدأ الرضا، ويبحثون عن حل مرضٍ بدلاً من الحل الأمثل.
ثم جاء كل من «Amos Tversky - أموس تفيرسكي» و«Daniel Kahneman - دانيال كايهنمان»، الحاصلان على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2002، بـ «نظرية الاحتمالات»، والتي توضح كيف يتم اتخاذ القرار غير العقلاني من خلال علم النفس، وتتكون النظرية من مرحلتين، هما: مرحلة التحرير، حيث يتم تطبيق الاستدلال أو الاختصارات العقلية في المواقف الخطرة، ومرحلة التقييم ، حيث يتم استخدام المبادئ النفسية، مثل: النفور من الخسارة والاعتماد المرجعي لتحليل البدائل الخطرة، بما يمثل اللبنة الأولى في علم الاقتصاد السلوكي.
بعدهما جاء الاقتصادي الأمريكي، «Richard Thaler - ريتشارد ثالر»، الفائز بجائزة نوبل عام 2017، وصاغ وطور مفاهيم علم الاقتصاد السلوكي، من خلال وضعه نظرية « Mental accounting- المحاسبة العقلية» على أنها العملية التي يقوم الناس من خلالها بترميز النتائج الاقتصادية وتصنيفها ووزنها، وطور أيضًا نظرية « Nudged- التنبيه/الدفع الاقتصادي» لاستكشاف كيف يمكن أن تتأثر خيارات الأشخاص الذين يستفيدون من قبل المساعدات التي تقدم لهم من المنظمات والحكومات الداعمة، ليتم اعتباره فيما بعد الأب المؤسس لهذا الفرع الحديث.
الاقتصاد السلوكي واقتصاد الفقراء
ومن هذا المنطلق، جاءت جهود ثنائي نوبل الاقتصادي لعام 2019 «Abhijit V. Banerjee – أبهيجيت ف. بانيرجي» وزوجته «Esther Duflo – إستير دوفلو»، في مجال التنمية الاقتصادية ومكافحة الفقر، والقائمة على فهم القرارات اليومية التي تواجه الفقراء وسلوكهم الاستهلاكي وفقًا للعقلية السائدة لديهم، بمعنى العمل على فهم كيف يفكر الفقراء عند اتخاذ قراراتهم، ودراسة القيود والمحددات، لاستكشاف لماذا يتخذ الناس أحيانًا قرارات غير منطقية، ولماذا وكيف لا يتبع سلوكهم توقعات النماذج الاقتصادية، ثم تصميم تجارب وبرامج تنموية خصيصًا لهم بناءً على تحديد الأكثر تضررًا وتأثيرًا في أرض الواقع.
وقام الثنائي بتوثيق أبحاثهم في كيفية التعامل مع المشكلات التعليم والصحة الناجمة عن الفقر، ضمن فصول كتاب «Poor Economics - اقتصاد الفقر»، حيث استفاد أكثر من خمسة ملايين طفل هندي من البرامج الفعالة لدمج التدريس مع العلاج، التي صممت وفقًا لقواعد الاقتصاد السلوكي في مومباي وفادودارا، المساعدة الموجهة للطلاب الضعيفين على تحسين النتائج التعليمية بشكلٍ كبير.
لماذا الاقتصاد السلوكي مهم؟
يدرس علم الاقتصاد السلوكي، كما سبق القول، السلوك البشري الحقيقي في الحياة والممارسات العملية بعيدًا عن السلوك النظري المتوقع، وذلك من خلال إجراء تجارب عملية مرتبطة دومًا بحوافز للترغيب والتحفيز، غالبًا ما تكون مادية، بما يجعل الأفراد يقومون بالسلوك الواقعي وليس السلوك المثالي، بعدما خرج من دائرة النظريات المعقدة التي يضعها علماء الاقتصاد الكلاسيكي، وذهب لتأثير التجارب الميدانية في تحسين الظروف المعيشية للفئات الأكثر تضررًا على أرض الواقع.
لتعمل نظريات الاقتصاد السلوكي على السماح للحكومات والمؤسسات التنموية المانحة بإعادة هندسة الخيارات المُتاحة، بإدخال بعض التحسينات على مستوى الرفاه الاقتصادي، بشكل يشجع الأفراد على اتخاذ قرارات أفضل، وذلك بما يناسب يعظم منافعهم الشخصية ومنفعة المجتمع ككل، وبالتالي تسهيل تحويلها إلى عادة للمجتمع، عبر تخطي مشكلة العقلانية المقيدة، بما يعزز نموذج الاختيار العقلاني.
كما يمكن دمج أبحاث الاقتصاد السلوكي في برامج المؤسسات الخيرية غير الربحية، للعمل على زيادة معدلات التبرعات وتحقيق نتائج أفضل للمستفيدين من البرامج التنموية، عبر فهم العوامل التي تحفز وتؤثر على سلوك المانحين والمستفيدين على حد السواء، ومن خلال البحث عن طرق جديدة ومبتكرة لإشراك المتبرعين المحتملين والعمل على تحفيز الجهات المانحة على العمل.
اليوم، أصبحت العلامات التجارية الشهيرة، مثل: Amazon وIKEA وNetflix، تستثمر الملايين من الدولارات في محاولة فهم سلوك ونفسية المستهلكين وعادات التسوق لديهم، من أجل الاستفادة منها في تصميم تجربة مستخدم تعمل على زيادة عمليات الشراء، ليتم تصنيفهم كمنصات إلكترونية مثالية تطبق مبادئ وأساليب الاقتصاد السلوكي، الذي يقضي بأهمية دراسة سلوك ونفسية المستهلكين.
اللاعقلانية والاقتصاد السلوكي
وهكذا، نشأ علم الاقتصاد السلوكي وتطور بمفهومه الحالي في النصف الثاني من القرن العشرين، من خلال:
• ملاحظة أن السلوك الإنساني (الفردي والجماعي) ينحرف في الممارسة العملية بشكل منهجي عن المبادئ المعيارية للسلوك الاقتصادي وفقًا للفكر الكلاسيكي.
• دمج جهود ورؤى علم الاقتصاد مع علم النفس، على خلفية النهج المعروف باسم «نموذج الاختيار العقلاني».
• تصميم برامج تنمية اقتصادية محددة بشكل خاص، لتتماشي مع السلوك البشرية، من خلال سياسات الدفع والتحفيز الاقتصادي.
ليقدم علم الاقتصاد السلوكي نظرة أعمق حول ما يحفز السلوك البشري، ورؤية حول كيفية اتخاذ الأفراد لقرارات أفضل في ظل القيود والمحددات المفروضة، كما يساعد على فهم آثار عدم اليقين على صنع القرار في مجالات، مثل: الشراء الاستهلاكي والمدخرات المالية وتغيير نمط الحياة.
ويساعد أيضًا في جعل اللاعقلانية أكثر قابلية للتنبؤ، مما يعمل على توجيه الأفراد نحو سلوكيات أكثر صحة، من خلال تصحيح الحواجز والقيود المعرفية والعاطفية، لتحقيق المصلحة الذاتية الحقيقية، بالإضافة إلى مساعدة الأفراد على ممارسة قدر أكبر من التحكم في النفس، وتنظيم أهدافهم الذاتية المستقبلية وأهدافهم طويلة المدى.
في عالم مثالي، يتخذ الناس دائمًا القرارات المثلى التي توفر لهم أكبر فائدة ورضا. لكن في الاقتصاد، تنص نظرية الاختيار العقلاني على أنه عندما تُعرض على البشر خيارات مختلفة في ظل ظروف الندرة، فإنهم يختارون الخيار الذي يزيد من رضاهم الفردي.
وبالتالي يمكنا القول، إن الاقتصاد الكلاسيكي ينظر إلى البشر على أنهم آلات روبوتية، تتخذ قرارات عقلانية محسوبة بناءً على المنطق فقط، بينما في المقابل، ينظر الاقتصاد السلوكي إلى البشر على أنهم كائنات عقلانية وعاطفية معًا، تتأثر قراراتهم بالتحيزات الشخصية والخبرات المتراكمة، وبالتالي يمكن تحفيزهم نحو الأفضل عبر برامج مصممة لذلك، وتأخذ الطبيعة البشرية في الحسبان.