رمز الثقافة الأمريكية.. تاريخ سروال الدنيم: 147 عاماً من رحلة تتوالى فصول نجاحها
في 20 مايو عام 1873، ولد رسمياً الجينز الأزرق الأيقوني. ففي هذا اليوم، حصل ليفي شتراوس، وجاكوب ديفيس، على براءة اختراع أميركية لتثبيت نوع من المسامير المعدنية في سراويل العمال للمرة الأولى. ومنذ ذاك الحين، واصل الجينز أو سروال الدنيم، مسيرته، وتطوّر حتى انتشر في كل العالم وألبس الجميع، رجالاً ونساء وأطفالاً. مسيرة 147 عاماً، من إنتاج لم يهدأ في تقديم تصاميم متجدّدة، نجحت في معاندة الموضة التي تمشي بخطى متسارعة. فما سرّ هذا النسيج الذي حقق ولا يزال كل هذه النجاحات المبهرة؟
تعرفوا معنا في هذا التقرير إلى تاريخ سروال الدنيم أو الجينز :
قبل 20 عاماً من الحصول على براءة الاختراع هذه، وتحديداً في عام 1853، وصل إلى مدينة سان فرانسيسكو شاب ألماني من بافاريا، عمره 24 عاماً، يدعى ليفي شتراوس، وكان كالجميع آنذاك يسعون للحصول على نصيبهم من الذهب. ففي يناير عام 1848، عثر جيمس دبليو مارشال، على الذهب في كاليفورنيا، وهذا ما دفع نحو 300 ألف شخص للتوافد إلى المكان تباعاً.
إنما ليفي شتراوس، لم يحالفه الحظ كالكثير من أبناء جيله، لكن إصراره على العمل، جعل اسمه من ذهب في الأعوام اللاحقة؛ فما الذي حصل؟
واصل ليفي شتراوس العمل تاجراً، بعدما طلب منه إخوته توسيع أعمالهم، وفتح فرع لهم في بلاد العم سام، وتحديداً في نيويورك. وكان زبائنه في البداية من العمال الفقراء جداً، ممّن يعملون في المناجم، وسط ظروف قاسية. كما كان بعضهم من البحارة. وبعد مدة، لاحظ شتراوس، أنهم يحتاجون إلى ملابس لا تتمزّق سريعاً، بفعل الاحتكاك بالصخور والحجارة، وقادرة على مقاومة مياه المحيطات المالحة. وكان يبيع قماشاً خاصاً بصناعة أشرعة المراكب والسفن أيضاً. ويُعتقد أن هذا ما دفعه لاستقدام كميات إضافية من هذا النسيج المتين من أوروبا.
وكان من بين زبائنه المخلصين، خياط يدعى جيكوب ديفيس، الذي راودته فكرة صناعة سراويل من أقمشة متينة، بعدما طلبت منه إحدى السيدات، أن يخيط من قماش المراكب سراويل لأبنائها الستة الذين يعملون في المناجم.
مهلاً؛ قبل أن نكمل الحديث عن قصة ليفي شتراوس، وجاكوب ديفيس، فلنعد إلى أصل النسيج الذي سمح بالحصول على هذا السروال الأيقوني.
تدلّ الأبحاث التاريخية على أن قماش سروال الدنيم الذي يشكل رمزاً للثقافة الأميركية، هو في الحقيقة أوروبي الأصل. ففي إيطاليا وتحديداً في مدينة جنوا، خيط نسيج قطني سميك سُمِّي "جينز" تيمناً باسم المدينة وخُصّص للبحارة، لأنه لا يتمزّق سريعاً، ويمكن ارتداؤه جافاً أو رطباً، أو حتى مبللاً بالكامل، فضلاً عن أنه يتحمّل التعرق والأوساخ. وقد صُدّر إلى العالم تحت اسم فرنسي "Bleu de Gênes" ، لأن صباغه كان أزرق، وتُرجم لاحقاً إلى الإنجليزية، فصار يعرف بـالـ"جينز الأزرق". أما في فرنسا فعملت مصانع مدينة نيم على إنتاج نسيج مشابه للنسيج الإيطالي المذكور، لكنها لم تنجح في الوصول إلى نتيجة مطابقة مئة في المئة. إذ حصلت على نسيج أسمك بكثير. وكان هذا يُعدّ أفضل جودة، لأنه يدل على أن النسيج لن يتمزّق سريعاً. فسمّي "سيرج دو نيم" وصار لاحقاً يُعرف بـ" دو نيم" أو "دنيم" ومعناه "من نيم". فيما كانت مدينتَا جنوى ونيم، تستقدمان الصباغ الأزرق من الهند، حيث كانت هناك مزارع لنبتة "أنديغو"، ويكفي الحصول على كمية صغيرة منها، لصبغ كميات كبيرة من النسيج القطني المذكور. لذلك كان الإنتاج يتركز في أغلبيته على اللون الأزرق.
وبالعودة إلى شتراوس الذي اشتهر لاحقاً بصناعة سراويل وملابس الدنيم، فإنه على مر 20 عاماً، من لحظة وصوله إلى أميركا، عمل بكدّ من أجل صنع سمعة مرموقة، فضلاً عن أنه اشتهر بإحسانه إلى الآخرين. وفي أحد الأيام، أتاه أحد زبائنه المخلصين وكان خياطاً يدعى جيكوب ديفيس، الذي أطلعه على نجاحه في تثبيت المسامير المعدنية في النسيج السميك، لكنّه كان يطلب منه دعماً مادياً، لإنتاج السراويل بكمية كبيرة، وتسجيل براءة الاختراع، خوفاً من أن يُسرق منه. وهذا ما فعله الاثنان حين تمكنا من الحصول على براءة اختراع من "مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأميركي" في 20 مايو 1873.
حينها، انطلقت مع الرجُلَيْن عجلة الإنتاج، وسرعان ما أطلقا مجموعات هائلة من سراويل الدنيم، التي كانت تُباع بسرعة قياسية، وحققت نجاحاً تخطى كل التوقعات. ورغم أن شكلاً من أشكال سروال الجينز، كان متوافراً في السابق، فإن تاريخ تسجيل براءة الاختراع يشكل يوماً مفصلياً، لأنه سمح بالحصول على النسخة المتينة التي نعرفها حالياً. نسخة مثبّتة بالأزرار المعدنية التي تستطيع ربط النسيج بعضه ببعض، من دون أن تتسبب بتمزيقه. وقد شهد أول أيام إنتاج الـ"دنيم" تصاميم الـ"أوفر أول" لتتماشى مع حاجات عمال المناجم والبحارة. وبعد أعوام، أطل السروال الذي ينتهي عند حدود الخصر.
ومع الوقت، انضمت مصانع مختلفة إلى إنتاج سراويل الدنيم منها، واشتهرت من بينها علامة "LEE" (لي) و"OshKosh B’Gosh " (أوش كوش بغوش) و" Blue Bell " (بلو بيل) التي صارت لاحقاً تعرف بـ"Wrangler " (رانغلر). وتحوّل الجينز قطعة لبسها جميع المشاركين في الحرب.
أما هوليوود، فدخلت إلى الخط، من أجل تغيير صورة الجينز المتّسخ، ونقله من مستوى العمال والمحاربين، ووضعه ضمن إطار الأناقة والرومانسية... إلخ. وانطلاقاً من عشرينات القرن الفائت وثلاثيناته، أطلّ نجوم رعاة البقر (كاو بوي) منهم جون واين وغاري كوبر، بسروال الدنيم الأيقوني. وأحدثا صدمة لدى الجمهور آنذاك.
أما في خمسينات القرن الفائت، فصار سروال الجينز رمزاً للتمرد ضمن صفوف جيل الشباب، خصوصاً مع نجمي السينما مارلون براندو في فيلم "The Wild one" وجيمس دين في فيلم "Rebel without a cause".
وخلال ستينات القرن الفائت وسبعيناته، انطلقت حركة الـ"هيبيز" التي ارتدت الجينز وسيلةً للتعبير عن دعمها طبقة العمال ورفضها الحرب، فيما بدأت السيدات بارتداء الجينز للمطالبة بحقوقهن والمناداة بالمساواة بين الجنسين. ولا تزال صورة النجمة مارلين مونرو، عالقة في الأذهان، حين اطلت بسروال الجينز الشهير.
وفي السبعينات أيضاً، أقدمت دور فاخرة على إطلاق تصاميم من الجينز على المنصات، وكان المصمم كالفن كلاين من أول المبادرين، وبعده كرّت السبحة ولا تزال إلى يومنا هذا.
وكما قال يوماً المصمم الراحل إيف سان لوران، في حديث إلى "مجلة نيويورك" نُشر في عدد نوفمبر 1983: "لطالما تمنيت أن أكون أنا من ابتكر الجينز الأزرق، لأنه يعكس الكثير من التواضع والبساطة والجاذبية، وهي كل ما أسعى لتقديمه في تصاميمي".