عبد العزيز التويجري لـ"الرجل":مرضي لم يكن اقسى ما مررت به
الرياض-علي العميم
رغم انه من جيل لم يفقد عنفوانه العربي، ولم تفقده الانكسارات تلو الانكسارات، ايمانه بإشادة الحلم العربي الخاص، فإن من يقرأ لعبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، سيلمح بالتأكيد هذه الغلالة الرقيقة من الحزن التي تلفّ جميع كتاباته؛ انه حزن ابن الصحراء، ذلك الحزن الوجودي الشفّاف الذي لم تهتك غلالته الرقيقة معضلات التفكير المجرد؛ إنه من نفر يرون في الثقافة عنصر إخصاب لهذه الطبيعة، وإن كانت هذه الطبيعة قاسية وموحشة، لذا لم يخل هذا الحزن الذي تتشح به كتاباته، من غزل المديح لهذه الصحراء وتمجيد قيمها التي من حبيبات رملها انقدحت اسطورة الانسان العربي، بعد ان انبثق من سماء غيبها نور الاسلام الذي اضاء للبشرية ردحاً من الزمن حضارة كانت من أهمّ الحضارات الإنسانية.
في هذا الحوار حاولنا أن نجول بين عبد العزيز بن عبدالمحسن التويجري نائب رئيس الحرس الوطني المساعد، وأوراقه، فهو من التصرفيين في البيان اذا كتبوا، وقد فعلنا معه ذلك، لكي نقترب من شخصيته، وليكون حوارنا معه شفهياً ينطق بالعفوية والبساطة، بعيداً عن منطق الكتابة المرتب، وبمعزل عن الحضور البهيّ للغة التي يجيد التويجري استحضار عوالمها الفاتنة.
*بعد ان قاربت العقد السابع من عمرك، بدأت تتوالى اصداراتك الثقافية، اين كنت هذه المدة الطويلة؟ ولماذا كان التأليف لديك متأخراً الى هذا الحد؟
-اين كنت؟ كنت على هذه الارض. أما لماذا كان التأليف متأخراً؟ فلأني ماكنت انوي ان اغدو مؤلفا، فما انا بالمحترف الكتابة، ولا بالمؤرخ، وليس لديّ منهج يلحّ عليّ ان اطبق رؤاي من خلاله.
انا محض قارئ تكون لديّ اصدقاء كثر من خلال هذه القراءة، زودوني بما تيسّر لديّ الآن من ثقافة ومعرفة بسيطة، فكان لابد لي من خيط يصلني بهؤلاء الاصدقاء، فكانت هذه الرسائل الى المتنبّي وأبي العلاء المعري. وكتبي دون تواضع ثرثرة وتعبير مني خاص الى نفسي،ماصلح منها لعلّ ان يؤخذ به، ومالم يصلح، فليطرح. وعلم الله اني لم اتوجه بها إلى فلان او علان من الناس. اضافة الى هذا وذاك ان الانسان الذي يحترم نفسه لا يستعجل ثمار تفكيره ويخرجها الى الناس، بل يتأنّى ولا يطرحها امامهم الا بعد ان يتعهددها الزمن بالنضج والانضاج، فالناس لايغفرون.ولو طرحت هذه الكتب وأنا في العشرين، وليس لي رصيد من تجربة ولا خيط من رؤية، لسلقوني بألسنةٍ حداد.
ألفت هذه الكتب في السنّ التي أشرت اليها، رغبة مني في ان اودّع بها الحياة التي ان لم يقرأها احد، فأقله ان يقرأها ابني مثل "رسائل الى ولدي"، لعله ينتفع بها.
*هل لهذا علاقة بمرضك، بحيث شكلت لك هذه الكتب السلوى النفسية والكلمة التي يجب ان تقولها قبلأن تمشي؟
- الحياة كلها تؤدي الى المرض، والامراض تختلف، فمنها المرض النفسي، ومنها العضوي، ومنها الفكري؛ ولا اعتقد ان هناك انساناً يأوي الى فراشه في هذه الحياة وهو غير ممروض.
اننا لم نأت الى هذه الدنيا الا لنعاني، وأن تكون هذه المعاناة معاناة مرة، لكن من الناس من تيسّر لهم الحياة، فلا يرى وجهها القاسي، ومن الناس - وهم الشطرالاعظم-من تعركه المعاناة والهموم. أنت بالطبع تشير الى المرض العضوي، هل تصدقني حينما اقول لك ان هذا المرض ليس اقسى ما مرّ عليّ في حياتي؟
لقد مررت بيتم، وقد تعرف ماذا يعني اليتم. وانت محاصر بالطموح والزحام والتدافع من حول بالمناكب والأبدان. ان من يريد ان يؤكد ذاته امام مجتمعه لابدّ ان يعاني. لقد اجتمع لديّ يتم وطموح، مع عوز وسقم، وقلة ذات اليد، هان مع كل ذلك مبضع الجراح الذي اجرى لي على سبيل المثال عمليتين خطرتين.
قبل تدفق النفط في بلادنا كنا نعيش مستوى معيشياً بسيطاً، ثم جاء النفط وتحولت المغبة الى خيرات، لكن آلامنا بقيت معنا.
*في كل كتبك استخدمت قالب الرسائل، لماذا لجأت إليه؟
لأنني ببساطة اجد نفسي في هذا القالب، وألمس فيّ قدرة تعبير اكثر في الافصاح عن دواخلي، لذا افضله عن غيره
*هل انت مفكر وجداني؟
لديّ فؤاد - كما قال ابو الطيب المتنبي - لاتسليه المُدام؛ فكثير من الاشياء لا تسليني.فأقرب ما اكون بالفعل للوجدانية، لكن من غير كلمة مفكر، فأنا لست بالمفكر، فالمفكر هو الذي يقدم افكاراً ويطرح رؤى عليها معالم النضج.
* "حتى لايصيبنا الدوار""أبا العلاء..ضجر الرب من عناء الطريق""حاطب ليل ضجر" عناوين جميلة كيف اهتديت اليها؟
اهتديت لها عن طريق الناس، فهي صدى لحياتهم وفكرهم، فحاطب ليل ضجر مثلاً استعرته من تجربة الحطاب، حينمايخيّم على المحتطب الليل، وهو يريد ان يجمع من شجر هذا الوادي مايوقد عليه طعامه، لكنه ضجر وخائف من الحيّات والآفات التي تسكن الوادي. هذا عن تجربتي مع الاحتطاب والوادي والليل.
اما عن تجربتي في وادي الحياة، فقد كنت وجلاً وخائفاً ان اقابل ماهو افتك من انياب الحيات؛ ألسنة الناس وماطبعوا عليه من نقد وتثريب وانتقاص، وربما سوء فهم ايضاً.
*هل شاركك احد في وضع هذه العناوين؟
أنا لا اترك لأحد ان يهزأ بي.
* في "أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء"، ما الذي جعلك تستوقف ابا الطيب في هذا المكان، وهو الذي طالت ايامه في اماكن اخرى؟
لأني متعصب للجزيرة العربية.إن اسمى ما ظهر في هذا الكون والحياة، ظهر عندنا الا وهي رسالة الاسلام.
فتلك مفخرة لا تدانيها اي مفخرة اخرى، ثم اني من اناس يمجّدون القيم قيم الشجاعة والكرم والوفاء، فلا تنس ان عنترة العبسي، وحاتم الطائي والسموأل، عاشوا بين جنبات هذه الجزيرة. حتى الحب في هذه الجزيرة يغدو طاهراً ومتعالياً على لوثات الجسد، منذ ان سنه بنو عذرة. ولا أنكر أني اتحوّل الى بدويّ متعصّب الى قبيلته. وقد تضيق الحلقات على عقلي وذهني، فلا ارى سواها، ومع هذا فإني اكافح هذا الشعور داخلي وأحاربه. فمع كل يوم اتعلم شيئاً جديداً ممن اقابلهم في عملي الرسمي او في الشارع اني على استعداد ان اتعلم ان يطويني الكفن.
*هل تناهى الى سمعك من يهمس بأن هذه الكتب التي ألفتها ألفت لك، خاصة أنها جاءت في مرحلة متأخرة من عمرك؟
سمعت بهذا، بل وكتب عنه ولم أغضب ولم انزعج مما كتب، بل ان احد الذين وجهوا اليّ هذه التهمة أرسلت له دعوة ضمن ضيوف مهرجان الجنادرية، وحين التقيته مع جمهرة كريمة من ضيوف الجنادرية، طلب مني كتابي عن المتنبي، فكتبت له على الكتاب اهداء مطولاً امامه اتعرض فيه لتسرعه باتهامي بهذه التهمة، من غير ان يتحقق من صدق محتواها وصعق امام الحاضرين من اسلوب الاهداء، لأنه فيما يبدو كان يعتقد اني لا اعرف ان اخط حرفاً.
كما ان هذه التهمة قد قال بها اناس تربطني بهم معرفة، فمحمد احمد النعمان وعبد الله القصيمي، كانا يرددان القول ان هذه الكتب لا يمكن ان تكون من تأليف عبد العزيز التويجري، ويبدو ان محمد النعمان اراد ان يختبر صدق هذه القضية عندي، فزارني في احد فنادق القاهرة، وطلب مني محاورته في كتابة موضوع ما، فشممت من طلبه هذا رائحة اختبار، فجلست واياه قرابة ساعة من الزمن، نتداول في هذا الموضوع كتابة، حتى فرغنا منه، فذهب النعمان للقصيمي معجباً بما كتبته، وقال كلاما استحي من ذكره، لأنه حقيقة يدخل في بند الاسراف في الاعجاب.
هذا شيء ثم اني لا اخفيك فرحتي، حينما تسري هذه السمعة السيئة عني، لأنها تحمل في ماتحمله تقديراً ضمنياً لما اكتب.
*ألهذا تكتب اهداءات مطولة على كتبك امام من يطلب نسخاً منها؟
خصوصاً حينما يكون المهدى اليه جالساً عندي، وأنت ايضا اذا كان لديك شك في اني لم أؤلف كتبي،فسأخط لك اهداء خاصاً وعلى الفور.
* تتحدث عن الحرمان، لكن اعتقد انه تهيأ لك من سبل العيش مالم يتهيأ لكثيرين، مامصدر احساسك بالحرمان؟
الامور لاتقاس من منظر ماديّ. اذا التفتّ الى حياتي فأنا اكثر حظاً من كثيرين،فمنذ ان كان عمري سبع عشرة سنة، وأنا اعمل في وظيفة حكوميةـ ولديّ الآن ستون عاماً خدمة في هذا المجال، فلا مكان للحرمان المادي في حياتي، انما الذي عندي اوجاع داخلية، فهناك اشياء كثيرة افتقدها، بودي ان اكون شاعراً كالمتنبي، ولكني محروم من هذه الموهبة النادرة، مع ان الشعر موجود لديّ إحساساً داخلياً، كما لا اخفيك امنيتي ان اكون مفكراً انسانياً يمتلك رؤية مبتكرة للكون والانسان والحياة. ومن وجهة نظر واقعية ليس بمقدوري ان اكون هذا المفكر اني اتحدثعمّايشبه هذا الحرمان.
*كيف تعرفت إلى ابي الطيب؟
لهذا الامر قصة؛ فذات يوم اشرفت على واد صغير في بلدتي المجمعة، فرأيت كهلاً يقرأ في كتاب ويردد هذا البيت:
كفى بك داء اأن ترى الموت شافيا وحسب المنايا ان يكنّ امانيا
التفت اليّ وقد رآني واقفاً عند رأسه، فسألني عن اسمي، فأخبرته. ثم سأل هل تقرأ؟ قلت له لا اقرأ ولا اكتب، فراح يشرح لي معنى هذا البيت الذي كان يردده، وأخذ يحدثني عن المتنبي، ثم اقترح علي ان يعلمني القراءة والكتابة، فوافقت.وكنت التقيه في هذا الوادي، على فترات طويلة، كان فيها لي نعم الاستاذ. ومن هنا بدأت علاقتي بالمتنبي.
*من هو هذا الشخص؟
أميل الى الاحتفاظ باسمه، لكني سأكتب عنه بشكل مفصّل في ذكرياتي، فقد كان اول معلم لي في حياتي.
* كيف كان يعيش؟ وما حكايته؟
- كان يعتزل الناس، لأنه كان متجاوزاً لأقرانه في تفكيره. لم يكن ينتمي لأفق المجمعة هذه القرية الضاربة في الامية حينذاك.
هاجر منها وعمره عشرون عاماً وساح في بلاد الهند وبعض بلدان آسيا، لأكثر من 40 عاماً، ثم عاد الى بلدته المجمعة، وله من العمر مايزيد على 60 عاماً. فكان يختلف عن الجميع. كلنا كنا اميين وشبه اميين، اما هو فليس مجرد شخص متعلم، بل وقارئ مطلع صاحب رؤية وثقافة واسعة، تجاوز هذا العالم الصغير في قلب الصحراء، تعرفت إليه وانا في الثالثة عشرة، كنت في ذلك الوقت طفلاً يتيماً تردد بضع مرات على الكتاتيب، ولم يخرج منها بحصيلة تنسبه الى المتعلمين، حين التقيت بهذا الرجل.
وقد كان اللقاء معه بالنسبة لي بداية احساسي بالوعي الذي يتجاوز الحدود الضيقة لقريتنا.
اذكر انه مرّ بي ذات يوم وقال: هيا لنأخذ الدرس فتحجّجت بالصداع والتعب، فنظر اليّ وقال: يبدو انك يا عبد العزيز مدين لأحد، فقلت: هو ذلك فأنا مدين بمبلغ خمسمئة ريال، وهي التي جلبت لي الصداع.
قال: اتعرف بريطانيا العظمى؟ قلت لا. فأنا للحق في ذلك الزمن لا اعرف بريطانيا. قال: أوما تعرف الانكليز؟ قلت بلى هؤلاء اسمع بهم قال: الانكليز يحكمون ثلاثة بلايين بعوضة في آسيا وإفريقيا. وبدأ يستخدم نعوتاً غريبة على اذني، فقاطعته قائلا: انك تتكلم من غير وعي فقال: بل عن وعي؛ اتكلم الانكليز يحكمون هذا العدد الغفير من البعوض، وأنت لاتعرف كيف تتصرف في قرية صغيرة، كل اهلها كرماء وطيبون، اذهب الى اي واحد منهم واطلب منه سلفة الف ريال، وإذا حان سداد دينه اطلب من غيره سلفة الف ريال ومئتي ريال، وسدد للاول، وهكذا حل مشاكلك الصغيرة.
*هل كان هذا الشخص قارئاً في غير الادب؟
- قرأ في الفلسفات الشرقية، وكان ذا وعي فكري وسياسي.
* هل كان يحسّ بالاغتراب؟
- كان يحس بالاغتراب الفكري. وأحب ان اؤجل الحديث عنه الى ان اكتب ذكرياتي.إني رأيت فيه ما لم أره في اخ ولا صديق ولا قريب. لقد نقلني من عالمي القروي البسيط، الى عوالم أرحب، وتتملكني تجاهه مشاعر الحب والوفاء.
* بودّي ان ابقى في البدايات، وأسألك ماصلة والدكم عبد المحسن التويجري، بالملك عبد العزيز؟ ولماذا هاجر إلى العراق؟
- صلة ولاء. ولظروف معيّنة كانت سائدة في تلك الايام، هاجر ابي إلى العراق، وحين عاد منه، ولّاه الملك عبد العزيز بيت المال في سدير.
* هل كانت هجرته لطلب الرزق، ام لغرض سياسي؟
- لا، لم تكن لطلب الرزق، وإنما تستطيع ان تقول عنها شبه سياسية.
هكذا تعرفت الى الملك عبد العزيز
بالطبع كان الملك عبد العزيز يعرف والدي ويعرف اسرتنا، لأن والدي وأسرتنا محسوبان ولاؤهاللملك عبد العزيز، وحين تُوفيّ والدي ناب عنه اخي الاكبر حمد في بيت مال سدير، ولم يكن لديّ عمل في المجمعة، فسافرت الى الرياض وقدمت التماساً الى الملك عبد العزيز في ان اعمل بالرياض، فأرسل برقية إلى أخي حمد يسأله فيها، فيمّ مجيئي إلى الرياض؟ ولماذا لم اعمل في المجمعة؟ فأخبره اخي ان المجمعة ليس فيها عمل، ومايقوم به يمكن ان يقوم به رجل واحد، فأمر الملك عبد العزيز بأن يذهب اخي مسؤولاً عن بيت المال في القصيم، وأن اتولّى بيت المال في سدير والزلفي.